الهويَّة لأيِّ شريحةٍ ممَّن يعيش على وجه هذه البسيطة مرآة تعكس النضوج الفكري، وامتلاك العدَّاد الجغرافي لمعرفة اتجَّاه السير، بعد التأمل في صفحات التاريخ، والاستفادة منها على الوجه الذي ينبغي.
كما أنَّ الخطاب الفكري الذي يصوغ أطروحات من نعتوا أنفسهم بالحداثيين، يستمدُّ جذوره من الانقلاب على الذات، والتنكُّر لثوابت الأمَّة وجذورها التاريخية، والسقوط في دهاليز الانهزامية. ثم يتبع ذلك سعيٌ حثيثٌ دؤوبٌ لتذويب هويَّة المجتمع المسلم، وتغيير بنيته العقَديَة.
بنسيان ذاتيتنا الإسلامية أضحت ذاكرتنا عقيمةً، وبفقداننا الهوية وجدنا أنفسنا في ساحة غير ساحتنا، وقد أعطينا ولائنا لجهةٍ غريبةٍ عن بيئتنا العقدية والفكرية!
أفرزت الهزيمة التي مُنيِت بها أمتنا، حالةً من فقدان الذات، أدَّت إلى انشغال نخبتنا بالردِّ على الشبهات، ووضع الدين في موقف الدفاع. وبدلًا من توجيه المسار نحو تعزيز الثقة بالذات، انشغلنا بجلدها بذرائع واهية، وكأننا تبع للغرب لا شخصية، ولا كيان، ولا حضارة، ولا تاريخ لنا! مما آلت بنا الأمور إلى مزيد من التيه والضياع.
وبعد إحساس الأمَّة بالهزيمة النفسية والفكرية، لا بدَّ من العودة إلى منظومة ثوابتنا قبل أن تجرفنا عواصف الغربة عن قيمنا، ونصبح في عدَاد الأمم المنسية كما حدث مع شعب "المايا"، أو نكون قريبيين من ذلك، كما حدث مع "الهنود الحمر"!
هوية الأمَّة هي الجسم المناعيُّ، ضدَّ كلِّ دخيلٍ في ثناياه الموت المحقَّق! وفي حال فقد الفرد المسلم هذا الجهاز المناعيَّ الذي يمثِّل مركز الدفاع الأول والثاني والأخير في البنية الروحية والفكرية له، كان عرضةً للمشي خلف كلِّ ناعق، ولو كان الأخير شبَه الغراب! عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: "الناس ثلاثةٌ: عالمٌ ربانيٌّ، ومتعلِّم على سبيل نجاةٍ، والباقي رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق"[1].
إنَّ التغيير المجتمعي العام يبدأ من الفكر. وإنَّ غير المسلمين قد فقدوا [البوصلة]، وجانبوا الصواب، وضلُّوا الطريق؛ فاضطربت عندهم الموازين، واختلفت لديهم المفاهيم، فنراهم استخرجوا من مقدماتٍ امتلكوها، نتائج خاطئة. نلحظ هذا التوصيف في البيان الأول من سورة الأنعام. قال الله تبارك في علاه: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الأنعام: ١.
فكيف لنا أن نستقي من هذه العصبة، التي فقدت انتماءها وتوازنها منهجًا لحياتنا، أو رصيدًا فكريًا يتملَّك عقولنا، أو قيَمًا روحيةً تملأ قلوبنا؟! وثمَّة أناسٌ لا خَلاق لهم من المعرفة قد لبسوا لبوسها زورًا! قد أصابهم العمى بصريح بيان سورة الرعد: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الرعد: ١٩.
فكيف ترنو أنظارنا إليهم؟! ننهل منهم كلَّ ما بدا لهم من دون تمحيصٍ، ولو كانت سمومًا فكريةً، وشوائب عقديةً، هي ثمرة تصوراتٍ فاسدةٍ تنذر مجتمعاتنا وأجيالنا بكلِّ سوء! وهذا ضربٌ من ضروب التيه والضياع!
قال المفكِّر الكبير، "محمَّد أحمد الراشد" رحمه الله: "ومن أصدق ما قاله "مالك بن نبي": "إنَّ قبل قصة كل استعمار، هناك قصة شعب خفيف يقبل الاستخذاء". وهو مثل ضربه رحمه الله، يفسِّر ظواهر حيوية كثيرة، وكما تبدأ تراجعات كل حضارة بالنخر، لتخلي مكانها إلى حضارة منافسة!".
وكان "مالك بن نبي" ذاته رحمه الله، قد زاد الأمر وضوحًا حين قال: "ولكنَّ الوقت الذي يكون فيه الألم أشدُّ، والحسرة أكبر، هو عندما نحاول إحياء العالم الثقافيِّ المشحون بالأفكار الميتة، بالاستعانة بأفكار قاتلةٍ مقتبسَةٍ من حضارةٍ أخرى فهذه الأفكار قاتلةٌ، وهي في موطنها الأصلي، تصبح أشدَّ قدرةً على القتل عندما تنسلخ من هذا المحيط.
وعلى هذا النحو يقتبس عن المجتمـع الإسلاميِّ المعاصر، الأفكار الحديثة والتقدمية في الحضارة الغربية".
وفي حال الشعور بالإفلاس على مستوى سواد الأمَّة فنحن أمام مآل التبعية للغرب والولوج إلى جحر الضبِّ الذي عمل على صناعته لنا وعلى مدى زمنيٍّ ليس بالقصير! وهو المعروف عند من يرتاد الصحراء برائحته النتنة، وهكذا حال التبعية فهو كذلك أيضًا!
قال الشاعر المسلم "محمود مفلح":
يا أمتي وأقـولها ملء الهـوى
وتخـونني في نطقـها الكلـماتُ
أتظلُّ تحت الشمس ألف عقيدة
والشمس تضحك والدجى طعناتُ
أنــظلُّ أعـرابـًا ورايتــنا الـتـي
تعـلو عـلى هـام الــدنى رايـاتُ
أنظلُّ نشرب من سواقي غيرنا
والـمـاء دفَّـاق هـنـا وفـراتُ
والمسلمون المتنورون الأحرار يدركون مدى أهميَّة الحفاظ على أصالة الفكر وصلابة المنهج، فقد حَدَث أن قطع التلفزيون التركي بثَّه المنقول مباشرة، من "جامع الفاتح" بعد أن تعالت صيحات الاستنكار ردًَّا على طلب إمام المسجد قراءة الفاتحة على روح "مصطفى كمال أتاتورك"، المتوفَّى سنة 1938م، ثمَّ أذاع رئيس أركان الجيش التركيِّ، الجنرال "كنعان أفرين" بيانًا، حمل فيه على إهانة مؤسِّس الجمهورية التركية، وهدَّد باستخدام القوة قائلًا: "إنَّ لدى القوات المسلَّحة، القوةُ لقطع لسان كلِّ من يتحدَّث ضدَّ أتاتورك العظيم[2]!
إنَّ الصراع الذي يخوضه أصحاب الفكر الإسلاميِّ النيِّر اليوم، يكمن النزاع فيه، وفي أغلب المواقع، في أصول ديننا، وثوابتنا الفكرية والعقدية، التي لا تقبل المجاملة أو شيئًا من التنازلات. وفي نهاية المطاف فالهدف هو إعادة الأمَّة إلى طريقها القويم، ووضعها على الجادَّة كي لا تعصف أمواج الانحراف بسفينتها المرجوة، وهذه الأمواج أصبحت أمرًا واقعًا، ومع الأسف الشديد فقد فعلت الثقافة الغربية في الجسد الإسلاميِّ فعل الهروئيين، وفي بعض الأحايين فعل السمِّ الزعاف. وعلى وجه الخصوص على أيدي مثقفين عرب، لا يلبسون ثياب القساوسة لكنهم مبشِّرون!
ومن ثمرات هذا الحصاد المرِّ فقدنا الراية الإسلامية والنظم الإسلامية، وكذا الأوضاع الإسلامية، وبدأت شعوبنا تتخبَّط في ظلمات التيه، وفي أوحال القوانين الوضعية!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، ص 29، دار الفتح. [2] انظر مجلَّة حضارة الإسلام الدمشقية، ص99، عدد شهري شعبان ورمضان سنة 1400هـ.كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين