انتخابات تركيا والإسلاميون الذين كُتبت عليهم الفُرقةُ

الرئيسية » بصائر من واقعنا » انتخابات تركيا والإسلاميون الذين كُتبت عليهم الفُرقةُ
انتخابات تركيا والإسلاميون الذين كتبت عليهم الفرقة

عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه مسلم "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، فإن معنى هذا الحديث ينسحب على كل المصلين المسلمين في أصقاع الأرض كلها، لا في جزيرة العرب وحدها.

فلما أن وجد الشيطان أمةً مسلمة قوية العقيدة - إلى درجة تستحيل معها عبادته، أو عبادة أي معبود آخر غير الله - صب جل وسوسته في التحريش بين المسلمين، وهي الحالة التي وصفها النبي صلى الله عليه في الحديث الآخر الذي رواه مسلم "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسَّنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها"

من هذين الحديثين، يتبين لنا أن التحريش بين المسلمين، والبأس الشديد بينهم، هو كتابٌ كتبه الله عليهم.

فلماذا كتبه الله عليهم؟ كتبه عليهم ابتلاء واختبارا لهم، وعلى قدر مدافعتهم لهذا الابتلاء، وتغلبهم عليه، تكون منزلتهم ومكانتهم عند الله، ولما أن كان الإسلاميون، هم فئة من المسلمين، لا هم أنبياء ولا ملائكة، فقد جرى ويجري عليهم ما جرى ويجري على المسلمين من نواميس الله فيهم وكُتبه عليهم، ومن ذلك التحريش الدائم والبأس الشديد بينهم.

لما أن كان الإسلاميون، هم فئة من المسلمين، لا هم أنبياء ولا ملائكة، فقد جرى ويجري عليهم ما جرى ويجري على المسلمين من نواميس الله فيهم وكُتبه عليهم، ومن ذلك التحريش الدائم والبأس الشديد بينهم

والشيطان في إغوائه لبني آدم، يعمل عملا فيه مكر ودهاء، فأكبر همه إغواء الصالحين المصلحين منهم، فإن كان عاجزا عن إغوائهم عقائديا عمد إلى إغوائهم عباديا، بأن يجعلهم يبتدعون فيها ولا يضبطونها على هدي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، فإن عجز عن إغوائهم عباديا عمد إلى إغوائهم سلوكيا، بأن يجعل الواحد فيهم رغم انضباطه العقائدي والعبادي ذا خلل سلوكي واضح وبيّن، فيكون الواحد حينها - كما نرى بأم أعيننا - سليم العقيدة صحيح العبادة سيء الخلق.

فإن وجد الشيطان قوما - كما الإسلاميين - هم من خير الناس عقيدة وعبادة وسلوكا، عمد إلى محاولة إفساد عملهم في إصلاح الناس وهدايتهم إلى شريعة الله ومنهجه، بأن يحرّش بينهم، ليجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذا ما نراه جليا، في سيرة الإسلاميين.

وصل الأمر بالإسلاميين عموما إلى تكفير وقتال بعضهم، بل ووصل الأمر بهم إلى أن يرى بعضٌ منهم أن تكفير غيرهم من الإسلاميين وقتالهم هو أوجب من تكفير وقتال غير المسلمين، ويضعون لأنفسهم المبررات في ذلك بقولهم: "العدو القريب أولى بالحرب من العدو البعيد، وعدو الداخل أولى من عدو الخارج، وغيرها..." أكبر تكفير الإسلاميين تكفيرُهم لغيرهم من الإسلاميين، وأكبر تبديعهم وتفسيقهم كذلك.

والعجب العجاب أن ذلك التحريش بين الإسلاميين، والبأس بينهم، قد وصل إلى حدود الفريق الواحد؛ فالانقسامات التي تحدث في الفريق الواحد من الإسلاميين، تكاد تكون من الكتاب الذي كتبه الله عليهم كذلك، وبقدر مدافعتهم لهذا الكتاب، وبقدر قدرتهم على التماسك والتجمع يكون الفتح والنصر.

تحدثنا قبل ذلك عن ذلك المعنى العجيب، عندما نجد أن الإسلاميين يفشلون في توحيد أنفسهم، ويسعون في نفس الوقت لتوحيد الأمة، وهم لا يفشلون في توحيد أنفسهم بجماعاتهم وفرقهم وأحزابهم المتعددة وفقط، بل وتفشل الجماعة الواحدة فيهم في الإبقاء على توحدها وتماسكها، وكذلك يفشل الفريق الواحد، ويفشل الحزب الواحد.

في الحالة التركية.. نجد إسلامييها أبناء وتلاميذ التجربة الأربكانية الواحدة، ومع ذلك يتفرقون إلى حزبين اثنين، حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب السعادة المعارض، فلماذا يتفرقون؟! لا لاختلاف في الخلفية والتوجه، فهما من خلفية واحدة، وذوا توجه واحد، ولكنه اختلاف قلوب الرجال، والتنافس على المناصب والكراسي، وكما قلنا سابقا: أغلب اختلافات الإسلاميين تنافس على المناصب والكراسي، ونحن نقصد هنا الاختلاف الذي يحدث في الفريق الواحد، ولا نكاد نجد اختلافا في الفريق الواحد مرده اختلافات التوجهات بين المختلفين، أو اختلاف الوسائل والممارسات، توجهات واحدة، ووسائل وممارسات واحدة، ومع ذلك يحدث الاختلاف، ليؤكد على أن مرده، التنازع على الصدارة والرئاسة، ومحاولة الاستئثار بها.

في التجربة التركية، نجح حزب العدالة والتنمية نجاحًا كبيرًا إلى الآن، في إدارة الدولة لأعوام قاربت العشرين، والتحرك شيئا فشيئا نحو أسلمة الدولة والمجتمع.

صحيح أن تحرك حزب العدالة والتنمية في أسلمة الدولة والمجتمع - وهي الغاية التي يعمل لها الإسلاميون - يبدو تحركا بطيئا غير سريع ولا صاخب، إلا أن ذلك مقصود؛ لأن العلمانية التركية التي كانت قد سيطرت على تركيا دولةً ومجتمعًا هي من أشد العلمانيات الإسلامية؛ أكثرها انتشارا وأكبرها قوة وسلطانا.

حزب العدالة والتنمية ناجحٌ بدرجة كبيرة في إدارة تركيا سياسيًا واقتصاديا وعسكريا وخدميا، وناجحٌ بدرجة لا بأس بها في السير نحو أسلمة البلاد والمجتمع، وإن بدا هذا السير بطيئا في نظر البعض، فهو في نظر البعض الآخر في منتهى الحكمة والتعقل والإدراك التام لحال البلاد والعباد مع علمانية متأصلة فجة

وليس أدل على ذلك من محاولة الانقلاب العسكري الذي كان، والذي يشير إلى بعد مهم في المسألة، وهي أن الجيش التركي لم يكن كغيره من الجيوش العربية التي تعمل لحماية طغمة حاكمة، ولكنه كان جيشا يعمل لحماية العلمانية والنظام العلماني الأتاتوركي، الذي أسسه كمال الدين أتاتورك، وأسقط من أجله الخلافة الإسلامية في عام 1924م.

حزب العدالة والتنمية ناجحٌ بدرجة كبيرة في إدارة تركيا سياسيًا واقتصاديا وعسكريا وخدميا، وناجحٌ بدرجة لا بأس بها في السير نحو أسلمة البلاد والمجتمع، وإن بدا هذا السير بطيئا في نظر البعض، فهو في نظر البعض الآخر في منتهى الحكمة والتعقل والإدراك التام لحال البلاد والعباد مع علمانية متأصلة فجة.

وبرغم نجاح حزب العدالة هذا، نجد المعارضة له من حزب السعادة، لا لشيء إلا لمجرد المعارضة، والتنافس على المناصب والكراسي.

من المفروض أن الإسلامية تجمع الحزبين، والأصول الأربكانية هي منطلقهم وغايتهم، وعلى الرغم من ذلك يحدث الاختلاف، وتحدث المنافسة.

وإن كان أغلب المتابعين، سيصبون جام غضبهم على حزب السعادة، الذي يقف الآن مع كمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب، والمرشح العلماني المتطرف في علمانيته، ضد أردوغان المرشح الإسلامي.

وقد وقف زعيم حزب السعادة كرم الله أوغلو، من أمام مقر حزبه الإسلامي، ومعه أحمد داوود أوغلوا رفيق أردوغان السابق والمنشق عن حزب العدالة والتنمية، ليعلنا معا دعمهما للعلماني كليجدار أوغلو ضد الإسلامي أردوغان.

أقول: إن كان أغلب المتابعين سيصبون جام غضبهم على الرجلين لدعمهما علمانيا في مقابلة أردوغان الإسلامي، فإننا يجب أن نتساءل: وما الذي دفعهما إلى ذلك؟!

الظاهر بوضوح، أن أردوغان لم يترك لهما خيارا غير ذلك، بعد استئثاره بالحكم وحده، أردوغان لمن يحاول الإنصاف في الحكم ليس نبيا ولا مَلَكا، ويبدو من المشهد أنه يميل إلى الاستئثار بالحكم، ورفض التناوب عليه من رفقائه الإسلاميين، مؤسسي الحزب معه، ورفقاء دربه في التجربة الإسلامية منذ بدايتها على يد الأستاذ المؤسس نجم الدين أربكان.

بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، اختلف فيما بعد أردوغان مع رفيقه عبد الله غول، فترك عبد الله غول المركب برمته لأردوغان، ترك الحزب وترك معه موقعه في الحكم.

ثم دارت الخلافات بين أردوغان وبين رفيقه الثاني أحمد داوود أوغلو، ففعل أوغلو مثلما فعل غول من قبله، وترك الجمل بما حمل لأردوغان، وقد كانت هذه التجربة تقوم على أكتاف هؤلاء الثلاثة المؤسسين، وكان لزاما أن تبقى قائمة على أكتافهم معا.

أردوغان زعيم إسلامي قل أن يجود الزمان بمثله، كما نرى ذلك بأم أعيننا، لكنه ليس نبيا ولا مَلَكا، والخطأ وارد في حقه، والظاهر أنه يريد أن يستأثر بالحكم دون رفقائه، ولا يريد منازعة من أحد منهم له فيه، بل وربما يعمل على إزاحتهم من المشهد من أجل ذلك

ولا يتخيلن أحد، أن أي اختلاف بين أردوغان، وبين أي واحد آخر، سيكون فيه أردوغان مصيبًا، والباقون المختلفون معه جميعا مخطئين، لا بد أن لا ننسى، أن هؤلاء الآخرين ليسوا أنبياء ولا ملائكة، وكذلك أردوغان ليس نبيا ولا ملكا.

أردوغان زعيم إسلامي قل أن يجود الزمان بمثله، كما نرى ذلك بأم أعيننا، لكنه ليس نبيا ولا مَلَكا، والخطأ وارد في حقه، والظاهر أنه يريد أن يستأثر بالحكم دون رفقائه، ولا يريد منازعة من أحد منهم له فيه، بل وربما يعمل على إزاحتهم من المشهد من أجل ذلك.

والآخرون المختلفون معه، قادة إسلاميون قل أن يجود الزمان بمثلهم، كما رأينا ونرى بأم أعيننا، أمثال عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو، لكن الظاهر أنهم يريدون كذلك أخذ حقهم في التصدر وإدارة المشهد.

وقد كان الواجب عليهم جميعا، أن يُبقوا على أردوغان في تصدر المشهد ما لم يُخل بذلك، على أن يُبقي أردوغان لهم معه في المشهد، مؤسسين وموجهين وقادة.

والمركب إن كانت لا تحتمل إلا ربانا واحدا، فهي تحتاج معه إلى مساعدين وبحّارة، ولن تسير المركب إلا بهم جميعا.

كتبنا قبل ذلك تحت عنوان (أردوغان بين الخوف منه والخوف عليه)، وهكذا هم قادة الإسلاميين جميعا، يُخاف عليهم من أعداء الأمة، إذ أنهم أفضل هذه الأمة عقولا وأخلاقا وسلوكا وقيادة، ويُخاف منهم أن إذا آلت الأمور إليهم، أن تدب فيهم شهوة السلطة، فلا يقبلوا أن يتركوها لغيرهم، ولا أن يشاركهم ذلك غيرهم مجرد المشاركة.

كما يُخاف على قادة الإسلاميين كذلك، الذين لم يصلوا لسدة السلطة بعد، أن تعميهم شهوة طلب السلطة، وحقد التنافس عليها، إلى حد الوقوف مع العلمانيين المتطرفين، في مقابل إخوانهم الإسلاميين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

القدس في فكر حماس: قراءة في مركز الوعي ومعادلات القوة

يصعب الولوج إلى تجربة حماس من دون المرور بالقدس؛ فالعلاقة بينهما ليست علاقة شعار بحركة، …