حتى لا نُروّض كالقطيع: خطوات عملية للتحرر من التدجين (2-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » حتى لا نُروّض كالقطيع: خطوات عملية للتحرر من التدجين (2-2)
man-people

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:

أولاً: أسس مقاومة ظاهرة التدجين.
ثانياً: وسائل ومعينات للتحرر من ربقة التدجين.

وتحدثنا بفضل الله تعالى عن ست نقاط تحت هذا العنوان، وفي هذا الموضوع سنتحدث بإذن الله تعالى عن أربع نقاط إضافية.

7) حث الكفاءات المخلصة لتولي السلطة وتقلد المناصب.

حين يتم الدفع بالكفاءات وحثهم على تولي السلطة وتقلد المناصب، نجد أنه بالتبعية تنضبط بوصلة المجتمعات إلى الصواب أو إلى أقرب مكان للصواب، مما يهيئ المناخ المناسب للإصلاح.

إن من المقولات الشهيرة التي تدفع في هذا الجانب هي مقولة: "الناس على دين ملوكهم".

والمقصود بالناس هنا هم عامة الناس الذين لا يشغلهم شيء سوى أن يدوروا في فلك رغيفهم وملذاتهم، وهؤلاء هم "الكتلة الحرجة" التي يعوّل على كسبها دعاة الإصلاح، وكذلك دعاة الهدم.

ومن المقولات التي تم نسبتها إلى الفاروق عمر، وإلى ذي النورين عثمان، وكذلك للخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنهم أجمعين)، مقولة: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

حين يتم الدفع بالكفاءات لتولي السلطة، تنضبط بوصلة المجتمعات إلى الصواب، مما يهيئ المناخ المناسب للإصلاح

8) بث التفاؤل وشحذ الهمم بأن الأمة يمكنها أن تتغلب على كبوتها وتعود لسابق عهدها.

إنّ الحلم بالتحلُّم، والعلم بالتعلُّم، والصبر بالتصبّر، والخُلُق بالتخلّق، كذلك التفاؤل بالتحلّي.

التفاؤل منهجٌ لا يستطيعه إلا أصحاب العزائم والهمم، فأولئك هم الذين يصنعون التاريخ في أحلك فتراته، ويقودون الأجيال في أصعب أحوالهم.

وإن نشر الطمأنينة في النفوس منهج رباني، فسبحانه وتعالى هو القائل لعباده: "لا تقنطوا"، وقال يعقوب لأولاده: "لا تيأسوا"، وقال يوسف لأخيه: "لا تبتئس"، وقال شعيب لموسى: "لا تخف"، وقال النبي ﷺ لأبي بكر الصديق: "لا تحزن".

وإن حسن الظن بالله هدي نبوي، وهو الذي جعل النبي ﷺ ينجو من ملاحقة سراقة بن مالك له في الهجرة.

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "فَارْتَحَلْنَا والقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أحَدٌ منهمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ علَى فَرَسٍ له، فَقُلتُ: هذا الطَّلَبُ قدْ لَحِقَنَا يا رَسولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ معنَا" (صحيح البخاري).

وجاء في "السيرة النبوية لابن هشام" أن النبي ﷺ قال لعدي بن حاتم مبشّراً إياه بمستقبل الإسلام، وكان عدي بن حاتم ما زال على الشرك، فقال له: "لعلك يا عُدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها (حتى) تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم؛ قال: فأسلمت".

إن كل الشواهد تقول بأن نشر اليأس والقنوط من أبرز ملامح خطة الأذناب الذين يستعبدون الأمة بالوكالة، فهم يحرصون ألا يصل إلى مسامعنا إلا أسوأ الأخبار، وأسوأ الجرائم، حتى أصبح الفحش في كل مكان، والجريمة تُرتكب لأهون الأسباب، والخيانة أسلوب حياة، والعهر تحضّر، والالتزام تزمّت، والأخلاق ضريبتها باهظة، والنتيجة أننا نعيش في خوف وترقّب وكبت وحسرة واكتئاب حتى الموت كمداً.

إن الحل لكل ذلك...
كن أنت الأمل لغد أفضل... قم بنشر الإيجابيات وكل ما يبعث على الأمل والتفاؤل... ستتغير للأفضل ويتغير كل من هم حولك للأفضل... والأهم من كل ذلك أنك ستُبطل كيد أعداء الإنسانية وأعداء الحياة... لأن المتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبع كل عسر!!

ولأجل كل ما سبق قال الإمام السهروردي:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبّه بالكرام فلاحُ!

إن الأمور وإن تعقّدت، والخطوب وإن اشتدت، والعسر وإن زاد، والمصائب وإن توالت، والفتن وإن تعددت وكثرت، فإن المسلم ينبغي له أن يتفاءل بالخير بعد الشر، والفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر؛ لأن المسلم يوقن أن كل شيء في هذا الكون لا يجري إلا بإرادة الله ومشيئته.

إن المتفائل لا يبني من المصيبة سجنًا، بل يتطلّع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليُسر الذي يتبع كل عسر

9) الفهم الصحيح لمفهوم الغنى في الإسلام، وأنه لا يتعارض مع صحيح الإيمان.

إن من المفاهيم الخاطئة عن خير القرون وأزهى العصور هي أن أصحاب هذه القرون والعصور زهدوا في الدنيا وعاشوا في شظف من العيش وتقشّف، وهذا لا أساس له من الصحة.
ولكي ندلل على زيف هذه المفاهيم، سنسوق بعض النماذج التي تدحض هذه الشبهة التي تحبّب الناس في الفقر حتى لا يزاحموا الأغنياء في التلذذ بنِعَم الدنيا.

قال تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف: من الآية 32).

وكان من دعاء النبي ﷺ: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" (صحيح أبي داود).

إن من يصرفون الناس عن الدنيا حتى لا يزاحموهم فيها سيقولون لك إن النبي ﷺ كان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وأنه ﷺ كان يمر الهلال وراء الهلال ولا يوقد في بيته نار، وأنه ﷺ كان يأكل الخبز بالخل، ولكن هؤلاء لن يحدثوك أن هذا لم يكن الأصل في حياة النبي ﷺ، وكذلك لن يحدثوك...

  • أنه ﷺ كان يحب الحلواء والعسل، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها.
  • وكان ﷺ يتصبح بسبع تمرات.
  • وكان ﷺ يأكل زيت الزيتون ويدهن شعره به.
  • وكان ﷺ يأكل الثريد بالخبز (والثريد طعام يكون فيه لحم مطبوخ وخبز مكسور).
  • وكان ﷺ يأكل الخريزة (طعام يُصنع من اللبن والدقيق).
    وكان ﷺ يأكل القثاء بالرطب، والبطيخ بالرطب، ويأكل التمر بالزبد، ويأكل الكبد المشوية، وكان ﷺ يحب من الشاة ذراعها، وكان ﷺ يقول: "إن أطيب اللحم لحم الظهر".
  • وكان ﷺ يكثر من شرب اللبن، وكان ﷺ يشرب العسل بالماء ويشرب نقيع التمر... إلخ.
  • وكان ﷺ يحب الطيب ولا يرده.

ولقد كان من بين الصحابة عامة، والمبشرين بالجنة خاصة، من كان "مليونيرًا ومليارديرًا" بلغة العصر:

أ) سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت ثروته تُقدّر بـ «ثلاثين مليون درهم فضة، ومائة وخمسين ألف دينار، إضافة إلى صدقات تُقدّر بقيمة مائتي ألف دينار».
وهذا ما جعل سيدنا عثمان رضي الله عنه يجهّز جيش العُسرة من ماله الخاص، ووهب (بئر رومة) للمسلمين، وكان ينفق على المسلمين بسخاء، حتى قال النبي ﷺ: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".

ب) سيدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لم يكن أقل مالًا ولا سخاءً من سيدنا عثمان.
ففي "طبقات ابن سعد": "قُتل طلحة، وفي يد خازنه ألفا ألف درهم، ومائتا ألف درهم، وقوّمت أصوله وعقاره بثلاثمائة مليون درهم"!
قال ابن الجوزي: "وقد خلّف طلحة ثلاثمائة حمل من الذهب".

ج) سيدنا الزبير بن العوام رضي الله عنه بلغت ثروته من قيمة العقار الذي ورّثه «خمسين مليونًا ومائتي ألف».

د) سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قُدّرت ثروته بـ «ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينار»، أي ما يساوي اثنين وثلاثين مليون درهم فضة.
وقد كان رضي الله عنه عصاميًا، فقد ابتدأ ثروته من العدم، بل إن سعد بن الربيع الخزرجي رضي الله عنه عرض عليه أن يشاطره في نصف ماله، فرفض عبد الرحمن بن عوف هذا العرض وقال: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلّني على السوق".

من هنا نقول إن الأصل أن يكون المسلم غنيًا، وأن يسعى لذلك، وأن يحرص كل الحرص على:

  • أن يحصل على المال من حلال وينفقه في حلال دون بخل ولا إسراف.
  • ألا يشغله جمع المال عن أداء الفرائض والواجبات.
  • أن يوقن المسلم أنه لا محالة مفارق للمال مهما كثر، وأنه سيحاسب عليه.
  • ألا يتمكن حب المال واكتنازه من قلبه، حتى لا يكون ممن قيل فيهم: "وتحبون المال حبًا جمًا"، ولا ممن قيل فيهم: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم".

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:
"كل دعوة تحبّب الفقر إلى الناس، أو ترضيهم بالدون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون في الحياة، أو تصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدنية، فهي دعوة فاجرة، يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد. وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام، وافتراء على الله".

مما سبق نفهم أن الإسلام هو دين الوسطية في كل شيء؛ فهو يبني الكيان الإنساني بناءً متكاملًا ومتوازنًا؛ فالإسلام ليس (أبيقوريًّا) -كما كان اليهود- لكي يترك للغرائز العنان دون تنظيم ولا تهذيب، كما أنه ليس (رواقيًّا) -كما كان النصارى- لكي يقدّم المُثل والفضائل ويتجاهل المتطلبات الفطرية للإنسان، فالإسلام بوسطيته يهدف إلى أن يكون المسلم عصيًّا على التدجين، أبيًّا على الاستضعاف.

الإسلام بوسطيته يهدف إلى أن يكون المسلم عصيًّا على التدجين، أبيًّا على الاستضعاف

10) عدم الغفلة عن سلاح الإيمان.

إن من أكثر الوسائل التي يركّز عليها الطغاة لضمان تدجين الشعوب واستئناسها هي وسيلة نشر الفسق والفجور، ليقينهم أن سلاح الإيمان قوي لا يُفل، ومن يتسلّح بالإيمان لا يمكن القضاء عليه.

ولقد حذّرنا القرآن الكريم من ذلك، حيث قال تعالى عن فرعون: "فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين" (الزخرف: 54).

تروي لنا كتب السيرة أن (بلعم بن باعوراء) كان من خيرة علماء بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم، وكان إذا نظر إلى السماء رأى عرش الرحمن... إلا أنه افتتن في دينه، وكان أول من أشار بنشر فتنة النساء في بني إسرائيل، فلم يمت حتى سجد للشيطان.

وكان برصيصا أعبد أهل زمانه من بني إسرائيل وأزهدهم، وظلّ يتعبد لله سنين طوالًا في صومعته لا يعصي الله شيئًا، فزيّن له الشيطان الزنا بامرأة فحملت منه، فعمد إليها فقتلها، ثم أغواه الشيطان فسجد له ومات على ذلك.

ولما قام الحجاج بقتل سعيد بن جبير، ووصل هذا الخبر إلى الحسن البصري، رفع يديه في جوف الليل وقال: "اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج"، فمات الحجاج من ليلته.

أخيرًا أقول:

إن ديننا لا يعرف الكسل، ولا يدعو إلى السلبية، ولا يحبّذ الانكماش الاجتماعي والانكفاء على الذات، كما أنه ينهى عن المداراة في الباطل، ويحذّر من مداهنة الظالمين، وبعد ذلك كله يأمر بتغيير المنكر، والأخذ على يد الظالمين، وهذا ما يضمن أن يكون المسلم عصيًّا على التدجين، أبيًّا على الاستضعاف.

خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

كيف نحتفل بالعربية يومًا ونطعنها بقية العام؟

في اليوم العالمي للغة العربية لا يصحّ أن نقف عند حدود الاحتفاء الرمزي أو التغنّي …