علماء السلطان: حين تتحول الفتوى إلى أداة خيانة

الرئيسية » خواطر تربوية » علماء السلطان: حين تتحول الفتوى إلى أداة خيانة
Shaikh

في خضمّ حياتنا، تتقاطع المشاهد، وتتداخل الأصوات، وتتوالى الشعارات بين علماء ربانيين صادقين، وأدعياء علمٍ يتسترون بثوب الدين، ويتوارون خلف العمائم واللحى، حتى ليُخيّل للمرء أنه أمام مشهدٍ عبثيّ لا يُفرَّق فيه بين الهدى والضلال، ولا يُعرف فيه العالم من المتاجر، ولا الناصح من المنافق.

إنه مشهد يوقع المرء في الحيرة، يتلمّس طريقه وسط تيهٍ أراده المتربصون بأمتنا، وزرعوا فيه بذور الشقاق والفرقة، حتى تنشغل الأمة بقضايا فرعية وتضيع عنها بوصلة قضاياها الكبرى. في هذا الزمان، لم يعد غريبًا أن نرى من يتخذ من العلم سُلّمًا للتسلّق، يصعد عليه ليُفسد لا ليُصلح، ويستغل ثقة الناس وعاطفتهم ليصير بوقًا للسلطان، لا لسانًا للحق.

تراه إذا ما تمكّن، صال وجال، وخرب على الأمة أمر دينها، وتذرّع بالمصلحة تارة، وبطاعة وليّ الأمر تارة أخرى، وبالواقعية والبراغماتية، حتى صارت فتاواه مرآة لسياسات الأرض لا لشرائع السماء.

ثم لا يلبث أن يوجه سهامه إلى كل من يسلك طريق العلم والدعوة؛ فيصمهم بالحزبية، ويتهمهم بالجهل، ويقصيهم عن الحق، وكأنما هو العالم الأوحد، والمجدد الذي لا يُضاهى، والناصح الأمين، لا يرى الحق إلا في رأيه، ولا يقبل الخلاف إلا على أعتاب بوابته.

العلم أمانة لا مطيّة

العلم أمانة، لا مطيّة تُركب، ولا سلعة تُباع. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. فالعالم الحقيقي هو من أورثه العلم خشية، لا من جعله وسيلة للتمكين والخضوع للهوى.

وقد قال النبي ﷺ: «من سُئل عن علم فكتمه، أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار» (رواه أبو داود).

إنّ العالم حين يصمت عن قضايا الأمة، أو يُسوّغ الذل والهوان بحجج مطّاطة، فإنه لا يؤدي أمانة العلم، بل يخونها، ويضلّ الناس باسم الدين.

إنّ العالم حين يصمت عن قضايا الأمة، أو يُسوّغ الذل والهوان بحجج مطّاطة، فإنه لا يؤدي أمانة العلم، بل يخونها، ويضلّ الناس باسم الدين

فلسطين… الميزان الفاصل

الفارق الجوهري بين العالم الصادق وأشباهم من المتاجرين بالدين، يتجلّى جليًا في مواقفهم من القضايا الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين. فحين يُباد أهلنا في غزة، ويُستهدف المسلمون في الضفة، ويُقصف الأبرياء في لبنان وسوريا واليمن، ولا يُسمع صوت لأولئك "العلماء"، بل تراهم يسارعون للقاء الصهاينة أو يبررون لهم أفعالهم، فاعلم أنهم باعوا ضمير الأمة.

هؤلاء الذين يدّعون الوسطية، وهم إلى التميع أقرب، يرون في العدو الصهيوني شريكًا لا قاتلًا، وفي المحتل الغاصب "صانع سلام" لا سافك دماء. وقد قال تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: 52].

فكلّ من جعل من اليهود المحتلين طرفًا لا يُعادى، وسوّى بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، فهو إمّا متستر بعلم لا يفقهه، أو جاهل يُسهم في تضييع الأمة، ويحرّف أولوياتها.

وكل من خذّل عن المجاهدين، وشكك في جهادهم، ودعا لعدم نصرتهم، وحارب من يدعو لهم ويجمع التبرعات لهم، فكيف يكون من العلماء وهو داعم لليهود مناصر لجرائمهم!!

كلّ من جعل من اليهود المحتلين طرفًا لا يُعادى، وسوّى بين القاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، فهو إمّا متستر بعلم لا يفقهه، أو جاهل يُسهم في تضييع الأمة

العالم الرباني… وقّافٌ عند الحق

العالم الرباني، هو من يقف عند حدود الله، يُناصر المظلوم، يُجاهر بالحق، لا يُداهن فيه سلطانًا، ولا يخشى فيه إلا الله. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39].

وهو الذي يجمع الأمة ولا يُفرّقها، لا يثير قضايا فرعية ويصمت عن الفواجع الكبرى، لا يصنّف عباد الله إلى أهل جنّة وأهل نار لمجرد الخلاف الفقهي أو السياسي. بل يعذر المخطئ، ويُقِرّ للمجتهد بجهده، حتى وإن خالفه في الرأي والطريقة.

أما أولئك الذين يتصدّون لكل جهدٍ صادقٍ، فيُصنّفون، ويخونون، ويُقصون، فما هم إلا فتنة في ثوب العلماء. وأداة بيد الاستعمار، يقومون بما عجز عنه، ولهذا قال رسول الله ﷺ: «أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين» [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].

وقال ﷺ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهّالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا»

ختاماً.. لسنا في مقام حصر الأسماء، فقد أزكمت رائحة خبثهم الأنوف، وافتضح أمرهم في المنابر والشاشات وصفحات التواصل. سقطت ورقة التوت حين خذلوا الأمة، وصمتوا عن قضاياها، ولم ينطقوا بكلمة حق أمام مجازر غزة، بل صاغوا فتاوى "التطبيع"، وسمّوا الاستسلام "حكمة"، والسكون "واقعية"، والجهاد "مغامرة"، والشهادة "انتحار"!

أما العالم الحقيقي، فهو من صدع بكلمة الحق، لا يبرر الذل، ولا يُلبّس الخضوع بثياب الدين، بل يسعى لتحرير الأمة من الاستعمار والاحتلال، ويعلم أن الحياة والموت بيد الله، لا بيد الطغاة. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ [آل عمران: 145].

فاحكموا على العلماء من مواقفهم، لا من لحاهم، ولا من خطبهم الرنّانة. فمن انسلخ عن قضايا الأمة، فهو كالذي قال الله فيه: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأعراف: 175].

كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

سيكولوجية الرويبضة

لا أدري متى بالضبط بدأ هذا القلق يتسلل إلى داخلي. ربما حين رأيت أحد الممثلين …