أثارت دراسة حديثة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تساؤلات عميقة حول المدى الزمني الذي يقضيه الطلاب في المدارس، ومدى تأثيره الحقيقي على جودة التعليم. فمن المُسلَّم به أن الأطفال في سن الدراسة يقضون جزءًا كبيرًا من حياتهم اليومية داخل أسوار المدرسة. ولكن: هل هذا الوقت مُستغل بكفاءة؟ وهل يؤدي بالفعل إلى نتائج أكاديمية ونفسية واجتماعية أفضل؟
بحسب بيانات الدراسة، فإن متوسط الوقت المقضي في المدارس الابتدائية والثانوية بين دول المنظمة بلغ 7,751 ساعة. وقد تصدّرت أستراليا القائمة بمعدل 10,710 ساعات، بينما جاءت هنغاريا في ذيلها بـ6,054 ساعة فقط. للوهلة الأولى، قد يظن البعض أن الدول ذات الساعات الدراسية الأطول تحقق نتائج أعلى في المواد الأساسية كالرياضيات والعلوم، إلا أن التقرير يكشف عكس ذلك تمامًا: الدول العشر الأعلى في عدد الساعات حصل طلابها على نتائج أقل بـ20 نقطة في اختبارات الرياضيات مقارنة بالدول ذات الفترات الدراسية الأقصر.
الزمن وحده لا يكفي
القضية المحورية هنا هي أن طول الوقت لا يعني جودة المخرجات التعليمية. وتشير الدراسة إلى أن تحسين التحصيل الدراسي لا يتحقق بزيادة ساعات التلقين، بل بكفاءة الطريقة التي يُستخدم بها هذا الوقت. وتؤكد منظمة OECD في تقريرها أن العوامل المؤثرة على التعلم تشمل:
- قوة المنهج الدراسي.
- كفاءة المعلم وفاعلية أسلوبه.
- طرق التقييم.
- تحفيز الطالب واندماجه.
"الوقت الذي يُقضى في المدرسة أقل أهمية من طريقة استثماره، والمحتوى المُقدَّم، ومدى جودة التدريس" (2022).
الزمن وحده لا يكفي، فما يحدد جودة التعليم هو طريقة استثماره ومحتواه، لا عدد ساعاته
من "مدرسة المجتمع" إلى التعلم مدى الحياة
في سبعينيات القرن العشرين، أثار الفيلسوف الأسترالي إيفان إليتش (Ivan Illich) جدلاً واسعًا بكتابه "مجتمع بلا مدارس"، معتبرًا أن التعليم الحقيقي لا يمكن أن يتم عبر الأطر المدرسية التقليدية التي، في نظره، تضخّمت حتى ابتلعت حياة الطالب بالكامل. ودعا بدلاً من ذلك إلى نموذج من التعليم يقوم على تحويل كل لحظة في حياة الإنسان إلى فرصة للتعلم والمشاركة والرعاية.
ومع أن رؤية إليتش بدت راديكالية آنذاك، إلا أنها ألهمت لاحقًا نماذج تعليمية أكثر مرونة مثل التعلم المفتوح والتعلم القائم على المشروعات. وقد أصبح اليوم من المسلَّم به في بعض الأنظمة التربوية أن المدرسة ليست بالضرورة المصدر الوحيد أو الأفضل للتعلم، وأنه يمكن إعادة تصورها لتصبح أكثر توافقًا مع حاجات الطالب النفسية والمهارية والاجتماعية.
الرفاه النفسي: وجه غائب في تصميم الجداول الدراسية
إحدى الزوايا المهملة عند الحديث عن طول اليوم الدراسي هي الصحة النفسية للمتعلمين. فالمبالغة في الحصص الصفية، خاصة في بيئات تقليدية تفتقر للأنشطة الإبداعية والدعم النفسي، تؤدي إلى إرهاق الطالب وتراجع دافعيته، وارتفاع معدلات القلق والتوتر والاكتئاب. وبالمقابل، تُظهر بيانات من فنلندا وهولندا أن تقليص ساعات الدراسة مع التركيز على أنشطة الإثراء والدعم النفسي يساهم في تعزيز التركيز والانضباط الذاتي.
دور التكنولوجيا في إعادة تعريف الزمن المدرسي
أحدثت التكنولوجيا ثورة في المفهوم التقليدي للزمن التعليمي. فمع ظهور منصات التعلم الإلكتروني والتعلم المدمج، لم يعد الفصل الدراسي هو المساحة الوحيدة للمعرفة. وقد أظهرت أبحاث تربوية أن التعلم الذاتي عبر الإنترنت يمكن أن يحقق مخرجات مساوية أو أفضل، بشرط وجود إشراف تربوي فعّال ومهارات تنظيم ذاتي لدى الطالب. وهكذا، فإن "الزمن المدرسي" الحديث يجب أن يُعيد توزيع الأدوار بين الطالب والمعلم والمنصة الرقمية، لا أن يُقاس فقط بعدد الساعات داخل الصف.
عدالة التوزيع الزمني بين المناطق
أوضحت إحدى تقارير اليونيسف التعليمية بعد فترة كوفيد أن الوقت التعليمي ليس متكافئًا عبر جميع البيئات التعليمية. فبينما يُستثمر الوقت بكفاءة عالية في مدارس ذات موارد جيدة، مثل المدارس الخاصة أو الدولية، قد يكون "وقت المدرسة" في بعض المدارس الحكومية، لا سيما في المناطق النائية، أقرب إلى الحضور الجسدي دون مضمون تعليمي فعّال. وهنا تصبح المعضلة مزدوجة: ليس فقط في عدد الساعات، بل في محتواها، وأسلوب تقديمها، وعدالة توزيعها.
المدرسة الناجحة اليوم ليست الأطول زمنًا، بل الأكثر فاعلية وتأثيرًا وملاءمةً لغرض تأسيسها
الخلاصة: إعادة تشكيل لا إلغاء
هذا ليس إلا مسحًا سريعًا لمئات الدراسات التي تدور حول نفس المعاني. والحل المثمر في تقديري ليس مجرد الدعوة إلى إلغاء المدارس، فالمشكلة في نظم الإدارة والعقليات الجماعية، وهذه تظل قائمة حتى بعد هدّ "مبنى" المدرسة. وفي الوقت نفسه لم يعد يصلح الاستمرار الأعمى في تكريس نظم التعليم التقليدية كما هي، لمجرد أنها باتت الروتين المريح. بل هي دعوة إلى إعادة تشكيل الرؤى والأهداف التعليمية والتربوية، وصياغة الأجواء والنظم المدرسية، كي تكون بيئات محفّزة، مرنة، تُركّز على التعلم مدى الحياة، وتراعي أبعادًا متعددة: أكاديمية، نفسية، اجتماعية، وتكنولوجية. المدرسة الناجحة اليوم ليست الأطول زمنًا، بل الأكثر فاعلية وتأثيرًا وملاءمةً لغرض تأسيسها.
