إن تخيلت يوما شرقا أوسط بلا إسرائيل، فكأنك تنزع من الجرح مسماره الأكثر حدة، لكنك لا تزيل الندوب ولا تمحو تاريخ الألم.
في غياب هذا الكيان الذي تمخض عن مشروع استعماري طويل، سيجد الشرق الأوسط نفسه أمام أسئلة أعمق من مجرد الانتصار الرمزي أو العودة إلى ما قبل النكبة.
فالمسألة لا تكمن فقط في إزالة دولة وكيان سياسي، بل في إعادة صياغة وعي جمعي كان، طوال عقود، معلَقا على صراع وجودي، يتغذى منه الخطاب السياسي، ويستمد منه الحاكم مشروعية سلطته، وتستيقظ به الشعوب على حلم الحرية والمقاومة.
كيف سيكون شكل المنطقة إذا اختفى هذا "العدو المركزي" الذي جسد، في الوعي العربي، معنى الشر المطلق؟
ربما سيكتشف العرب أن هزائمهم ليست كلها من صنع إسرائيل، وأن خرابهم الداخلي أكبر من أي احتلال. سيُطرح السؤال الذي طالما جرى تجاهله: ماذا بعد المقاومة؟ هل يمكن لشعوب مزقتها الأنظمة المستبدة، واحتلتها أنماط من التخلف والفساد، أن تعيد بناء ذاتها دون الحاجة إلى عدو خارجي يوحد صفوفها؟
غياب إسرائيل سيجعل الصراع مكشوفا بين الشعوب وحكوماتها، بين الحرية والاستبداد، بين مشروع نهضة مؤجل وأطلال تاريخ عالق.
من زاوية فلسفية، يبدو الشرق الأوسط بلا إسرائيل كأنه يدخل مرحلة "الفراغ الرمزي".
طوال قرن، كانت فلسطين هي الجرح المؤسس الذي يختزن معنى العدالة الضائعة والكرامة المهدورة. فهل سيبقى هذا المعنى قائما دون العدو الصهيوني؟ أم سيغدو الشرق الأوسط بلا بوصلة، يبحث عن شرعية وجوده في صراعات داخلية أكثر قسوة؟
ربما يُعيد هذا الغياب توجيه الوعي العربي من خطاب المظلومية إلى خطاب الفعل والإبداع، من التلويح بالماضي إلى اقتحام المستقبل.
لكنْ هناك بُعد آخر: إن اختفاء إسرائيل لا يعني اختفاء القوى التي صنعتها ورعتها. سيبقى الغرب بمصالحه ومشاريعه، وستظل أميركا وأوروبا تبحثان عن "إسرائيل أخرى" تحفظ لهما السيطرة على منابع النفط وخطوط التجارة.
فهل يمكن للشرق الأوسط أن يتحرر فعلا من شبكات الهيمنة الاستعمارية دون أن يعيد بناء ذاته سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟ غياب إسرائيل سيكون اختبارا للوعي العربي: إما أن يولد مشروع نهضة حقيقي، أو يتكشف عجز الأنظمة العربية التي ربما ستصنع عدوا جديدا لتبرير وجودها وقمع شعوبها.
إن الشرق الأوسط بلا إسرائيل ليس حلما ورديا كما يبدو في شعارات الحشود، بل هو سؤال مخيف عن حقيقة الخراب الداخلي، عن هشاشة النظام العربي، وعن استحالة النهضة ما لم نواجه ذواتنا قبل أعدائنا. فهل سنكتشف أن أكبر احتلال نعيشه ليس خارجيا، بل داخلي في العقول والنفوس؟
سيكتشف الشرق، وربما الغرب أيضا، أن الصراع لم يكن مع كيان غاصب فحسب، بل مع أنفسنا، مع تاريخنا الممزق، مع أوهام القوة التي اختبأت خلف شعارات النصر المؤجَل. بلا إسرائيل، سنضطر لمواجهة السؤال الذي لطالما تجنبناه: من نحن دون عدو يوقظ فينا الغضب؟ من نحن إذا لم يعد هناك "آخر" نحمله عبء انهياراتنا الداخلية؟
في هذا الشرق الذي عانى من كثافة التاريخ، سيصبح الغياب امتحانا للوعي: هل ستولد من رماد الكراهية نهضة تعيد ترتيب الذاكرة، أم سيتحول الفراغ إلى اقتتال جديد بين الأشقاء الذين لم يعرفوا يوما كيف يعيشون بلا صراع؟
غياب إسرائيل قد ينزع القناع عن الأنظمة التي وجدت في هذا الصراع ذريعة لبقاء دائم، وقد تكتشف الشعوب أن معركتها الأصعب لم تبدأ بعد، لأنها ضد العجز المزمن، ضد الاستبداد، ضد الركود الذي جعل من المقاومة كلمة مجردة من الحياة.
فلسفيا، سيغدو الشرق الأوسط بلا إسرائيل كما لو كان يقف أمام مرآة الحقيقة لأول مرة. لن يعود هناك ظل خارجي يبرر تشوه الصورة؛ سنرى أنفسنا عراة أمام أسئلة الوجود: هل نحن قادرون على إنتاج المعنى دون خصم يُسقِط علينا أسباب العدم؟ هل يمكننا أن نحيا من أجل فكرة النهضة، لا من أجل فكرة العداء؟
ربما سنكتشف أن كل ما كنا نراه في إسرائيل كان انعكاسا لخرابنا الداخلي، وأن تحرير فلسطين الحقيقي يبدأ بتحرير العقل، بتحرير الخيال من قيود التاريخ المثقل بالأوهام.
ربما لن تكون ولادة شرق بلا إسرائيل سهلة، لأنه سيحتاج إلى معركة وجودية مع نفسه، إلى ثورة وعي تعيد تشكيله من الداخل. لكن، أليس هذا الحلم هو المعركة التي تأخرت طويلا؟ أن نكسر قيودنا، لا قيود غيرنا فقط؟ أن نحرر الأرض من الخارج والروح من الداخل معا؟
الشرق بلا إسرائيل أشبه بطفل وُلد بلا ذاكرة للجرح. ستنهار أسطورة "المظلومية الكبرى" التي وحدت القلوب في الظاهر وفرقتها في العمق.
سيصبح علينا أن نكتب تاريخا جديدا، بلا صرخة "العدو"، بلا نواح على الماضي. فهل نعرف كيف نعيش بلا عدو خارجي؟ أم إن غياب إسرائيل سيفضح أننا لم نبنِ ذاتنا يوما، وأننا نحتاج دائما إلى "آخر" لنعرف من نحن؟
فلسفيا وسياسيا، سيكون الغياب امتحانا للعقل. فالوجود لا يُقاس بعدد الأعداء، بل بقدرتنا على خلق معنى للحياة دون قيد أو استعمار. ربما سيولد شرقٌ آخر، شرق لا يبحث عن نفسه في شظايا الحروب، بل في وهج الحرية، شرق يعرف أن المعركة الحقيقية لم تكن يوما على حدود الجغرافيا، بل في عمق الوعي، في تحرير الإنسان من الاستبداد والجهل والتخلف.
معلومات الموضوع
الوسوم
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة
