كيف أعرف ربّي تبارك وتعالى؟

الرئيسية » بصائر تربوية » كيف أعرف ربّي تبارك وتعالى؟
muslim- doaa

رغم إدراكنا العقلي لضرورة محبة الله تعالى وإقرارنا اللسانيّ بذلك، إلا أنّ شعورنا القلبي والوجداني يعاني من ضمور في استشعار المحبة الحقيقية والصادقة لله تبارك وتعالى، وينعكس الضمور تبعًا في العناية بإخلاص النية والصدق في ذلك. لماذا؟

لأننا لا نعرف ربنا تبارك وتعالى معرفة جادّة، ولا نبذل في سبيل التعرف إليه بذلًا صادقًا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67].

ولتدرك أثر المعرفة الجادّة وأهمية عمقها في بنية المحبّة، تأمّل في علاقاتك بالبشر، تجد أن صلتك تتوطد بأولئك الذين تتعرّف إليهم عن قُرب، وينزلون من قلبك منزلة خاصة، دون غيرهم ممّن يمرون عليك مرورًا عابرًا عن بعد، فلا يشغلون في بالك حيزًا يُذكر.

وكما أنك – مثلًا – لا تنهض من عمل تحبه لتأكل حتى "يقرصك" الجوع وتدفعك "الحاجة"، فكذلك بدء بذل الجهد الجاد في التركيز والحضور مع ربك تعالى يتطلب استشعارك مبدئيًا لحاجتك الشخصية والحقيقية لأن تتعرف إلى ربك تعالى، وتتعلم آداب وأحكام شريعته، وإلا كنت عُرضة للهلاك بتكديس أعمال في الدنيا تحسبها من الصالحات وأنك موفق فيها، ثم لا تجدها عند الله إلا هباءً منثورًا.

وكما أنك مثلًا تحب بعض أصناف الطعام أكثر من غيرها، فتُقبل عليها مدفوعًا بمحبتك لها وإن لم تكن جائعًا تمامًا، كذلك يُرجى أنك تترقّى بالصدق في بذل الجهد لمعرفة ربك تعالى، فتذوق من أُنس حضرته وبركة ذكره في الشدة والرخاء والرهبة والرغبة، ما يدفعك إليه رغبةً ورهبةً وحاجةً معًا.

وخذ مثلًا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ".

فقال بلال: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".

في ثنايا هذه القصة عبرة خفيّة، ومعيار أكيد لضبط الأولويات لمن شاء أن يُسدَّد سعيه، وهما كلمتا: "أرْجَى عندي".

إننا نعمل أعمالًا كثيرة في يومنا وأسبوعنا وشهرنا وعامنا؛ لكن كم من هذه الأعمال نرجوه عند الله؟ أو ما الذي نرجوه عند الله تعالى مما نعمله في حياتنا؟

هل استوقفتنا مثل هذه التساؤلات في عملنا بقدر ما يستوقفنا التفكير في آمالنا؟

أم أننا نحيا حياة غير الحياة ونتمنى على الله تعالى الأماني؟

إذا عرضت هذا السؤال (ما الذي أرجوه عند الله تعالى؟) على ما تفعله بالفعل في حياتك وما يشغلك من أعمال، يمكنك أن تميّز الغثّ من السمين، وتعيد ترتيب أولوياتك، وتتخفف من الأعباء الجوفاء. وإذا جرّبت أن تعمل قائمة بما سترجوه عند الله لو توفّاك الآن، لعله يدهشك أن تتبين أنك منشغل شغلًا كاذبًا بما لا ترجوه عند الله، وما ترجوه حقًا أنت عنه غافل أو غير مهتم به كفاية.

فإذا سألت: ما المقصود بمعرفة ربي تبارك وتعالى؟

كان الجواب:

غالبنا يعلم أسماء الله تعالى علمًا تقريريًّا، أي أننا نسردها مقرّين أن هذه الصفات هي لله تعالى وحده. فالله تعالى هو وحده بالتأكيد: الخالق، الحقّ، العدل، المالك، الرزاق، الباقي... وهكذا.

لكن المعرفة الحقّة تبدأ من إدراك المسلم لدلالة أسماء الله تعالى ومقتضيات صفاته تعالى في تكوين هذا الوجود وسننه ومخلوقاته (أي ما تقتضيه عمليًا من تطبيقات)، ثم ما ينبني على إيمانه بها في حركته هو في الحياة، فكريًا ووجدانيًا وسلوكيًا.

هذه المعرفة وذلك الالتزام بتطبيقاتها هو الفيصل بين المؤمن بالله تعالى وغير المؤمن به، وإلا فما معنى الإيمان وما جدواه إذا لم يكن يمايز بين الاثنين في تصور غاية الوجود ومفاد الحياة ونهج إحيائها وضوابط الحركة فيها؟!

خارطة مفتاحية للمعرفة العمليّة

فيما يلي رسم عملي يلخّص منهج تعلم كل اسم من أسماء الله تعالى وصفاته، بحيث تطبّقه على أية مادة تطالعها فيها:

البدء بتعريف الاسم أو الصفة

تعلم المعنى اللغوي والاصطلاحي (الشرعي العقدي) للاسم أو الصفة، ثم دلالتهما أو أثرهما العملي في تكوين هذا الوجود وسننه ومنهج سيره.

مثال: الله المالك.

المالك لغة: صاحب ملكيّة ما.

المالك اصطلاحًا: "الْمَلِكُ هُوَ اللَّهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، مَلِكُ الْمُلُوكِ، لَهُ الْمُلْكُ، وَهُوَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ، وَهُوَ مَلِيكُ الْخَلْقِ أَيْ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ".

من دلالاته التطبيقية: لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله تعالى، وإن خالف ما يحبه ويرضاه.

ثم فهم المقتضى

تعلّم ما يترتب على إيمان المؤمن بالاسم أو الصفة الجليلين، وأثر ذلك في حياته فكرًا ووجدانًا وحركة.

مثال: أن يدرك المؤمن بالله المالك أن الفضل كل لله تعالى أولًا وآخرًا، وأن ليس له من الأمر شيء. بالتالي، كل حق جعله الله تعالى لأحد في سياق أو منعه إياه، إنما هو تقسيم المالك في ملكه، وهبة من فضله، فلا يقارن أحد نفسه بغيره ويقول: "اشمعنى؟". ففرق بين ألا يكون لك شيء أصلًا فتوهب شيئًا فتحمد وترضى، وأن تفترض أنه يحق لك شيء استباقًا فإذا لم تُعطه استشعرت المظلومية وسخطت على الحرمان.

ثم فهم المخالفات

تعلم أنواع وأشكال المخالفات التي إذا صدرت من مؤمن فهي تتعارض مع ما يقتضيه إيمانه بالاسم الجليل.

مثال: إيمان المؤمن بالله تعالى وفهمه لمرتبة العبودية ومقام الألوهية، يمنعه من التجرؤ على مقام الله تبارك وتعالى بالعتاب والمساءلة الفاجرة، كمن يطالب بكشف حساب من ندٍّ له! أو كمن يرى أن الأقدار جائرة والدهر ظالم والعدالة منعدمة في الأرض والسماء سيّان!

خلاصات

مدى حرص المؤمن بالله تعالى على العلم بربه تعالى من محكّات صدق إيمانه.

و"المحكّ" اسم آلة من (حكّ). وحكّ الشيء: فركه ليختبره، كما تُحكّ المعادن بالأحجار لاختبار مدى جودتها وأصالتها.

فكذلك يتجلى صدق إيمان من أعلن إيمانه بالله تعالى في حرصه على التعرّف إلى ربه تعالى طواعية وقت رخائه.

ومن رصيدِ ذلك الحرص وتلك المعرفة تكون عُدته في الشدة.

إن اختبارات الدنيا وشدائدها تحكّ المؤمن وتفرُكه، لتكشف له عن مدى أصالة معدنه وحقيقة إيمانه، فيرسخ يقينه في ربّه إذا كان ممتلئًا بالفهم على بصيرة، أو يُورث الحيرة والتشتت في صلته بربّه إذا كان خاويًا جاهلًا!

كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

بين الإخلاص والهندسة: المعادلة التي تحفظ عمر الحركات

حين ننظر في مسار الحركات الإصلاحية خلال القرن الأخير، نرى مشهدًا محيِّرًا في ظاهره: تنظيمات …