حين يكون الصبر وعيًا بالسنن لا انتظارًا للفرج

الرئيسية » بصائر الفكر » حين يكون الصبر وعيًا بالسنن لا انتظارًا للفرج
gaza27

الثبات في الوعي القرآني ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل ركيزة من ركائز التغيير الإلهي في التاريخ. فالله سبحانه لم يعد المؤمنين بنصرٍ عاجل، بل وعدهم بتمكينٍ يمرّ عبر دروس الألم، لأن الدعوات لا تُمنح النصر قبل أن تُمنح الوعي. ومعركة طوفان الأقصى كانت تجسيدًا عمليًا لهذا القانون الأزلي؛ إذ لم تكن صراعًا على الأرض بقدر ما كانت امتحانًا للثبات، وفرزًا بين من أدرك منطق السنن ومن أضاع بوصلته في لحظة الاضطراب.

الثبات امتحان الوعي قبل امتحان الإرادة

في القرآن، يسبق الوعي بالفعل، لأن الله أراد للمؤمن أن يفهم قبل أن يُبتلى. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].

فالفتنة هنا ليست طارئة على مسار الدعوة، بل شرطٌ لبقائها نقيةً من الزيف. ولذا، فإن الصبر ليس أن تتحمّل الضربات، بل أن تفهم معناها، وأن ترى وراء الألم حكمة الاصطفاء.

حين يبتلي الله الأمة، فهو لا يريد أن يُضعفها، بل أن يُعيد ترتيب إيمانها لتصبح أصلب وعيًا وأعمق بصيرة. فالابتلاء يختبر الفكرة أكثر مما يختبر الجسد، ويقيس مدى صلابة المبدأ لا صلابة العضلات.

من هذا المنظور، كانت غزة — منذ أول حصار وحتى طوفان الأقصى — مختبرًا ربانيًا لتربية جيلٍ يعي أن الثبات ليس موقفًا مؤقتًا، بل حالة دائمة من الإيمان المتحرك. فالمجاهد الذي يعيش سنن الله في نفسه لا ينهزم حين يُهدم بيته، لأنه يعلم أن الهدم قد يكون بداية الإعمار، وأن الألم جزء من صناعة الإنسان الرباني.

وهنا يتكشّف عمق قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]؛ فالتمحيص فعل بناء، لا عقوبة. ومن خلاله يتطهر الصف، ويتمايز الصادق من المدّعي، وتُعيد الجماعة تشكيل وعيها على ميزان الصبر.

الثبات إذًا وعيٌ بالسنن قبل أن يكون تحمّلًا للأذى، وهو إدراكٌ أن الله لا يُعطي النصر قبل أن يُنضج المؤمنين ليحسنوا حمله. ومن لم يتربَّ في مدرسة الابتلاء، سيضيع في فوضى التمكين.

الثبات ليس احتمالًا للألم، بل وعيٌ بالسنن التي تصوغ التاريخ؛ فكل محنةٍ تُعيد بناء الأمة وتُنقّيها من الوهن، لتُهيّئها لحمل النصر عن استحقاق

الثبات وعيٌ بالتاريخ وإستراتيجية نصر

الثبات في التجربة الإسلامية لا يُقاس بمدى الصمود الزمني، بل بقدرة الفكرة على البقاء في الوعي رغم تغيّر الأزمنة. فالأمم تسقط حين تفقد معناها، لا حين تخسر معاركها. لهذا، فإن الثابتين لا يرون النصر حدثًا آنيًا، بل سيرورةً طويلةً من تراكم الوعي والعمل والإيمان.

قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. هذه المعادلة العجيبة تجعل التثبيت نفسه جزءًا من النصر، وكأن الله يقول للمؤمنين: النصر الحقيقي أن أثبّتكم على الطريق، لأن من ثبَت فقد انتصر سلفًا.

إنّ الثبات على المبدأ وسط تغيّر التحالفات وتبدّل الخطابات هو أعلى درجات النضج السياسي والإيماني. فحين تلهث كثير من القوى وراء “الممكن السياسي”، تبقى المقاومة على عهدها مع “المبدأ الإلهي”، لأنها تدرك أن الطريق الأطول هو الأقصر إلى الله.

غزة في طوفانها الأخير لم تنتصر على العدو في جولة سريعة، لكنها انتصرت على فلسفة الهزيمة التي سكنت الوعي العربي. لقد بدّلت معنى النصر ذاته، حين جعلته مرادفًا للثبات، لا للغلبة المادية.

في منطق السنن، كل لحظة صبرٍ تُضيف لبنةً في صرح الأمة. فالزمن يعمل لصالح من يثبت، لا لصالح من يساوم.

ومن هنا فإن الثابتين في فلسطين اليوم لا يواجهون جيشًا فحسب، بل يواجهون سرديةً كاملة أرادت أن تُقنع الأمة أن المقاومة عبث. فكان جوابهم العملي هو الاستمرار، لا بالكلام بل بالفعل، لأن الوعي الراسخ أثبت من السلاح، ولأن العدو يخشى المؤمن الذي يعرف لماذا يقاتل أكثر من خوفه من الذي يُجيد القتال.

الثبات في طوفان الأقصى ليس صمودًا ميدانيًا فقط، بل شهادةٌ فكرية بأن الأمة ما زالت تعرف طريقها، وأن الوعي هو أول أبواب النصر

الثبات إذًا هو وعيٌ بالتاريخ وقراءةٌ للمستقبل في آنٍ واحد. من يثبت اليوم على المبدأ، يكتب للأجيال القادمة طريقها إلى الحرية، ومن يجزع، يقطع الخيط بين الماضي والمستقبل. ولعل أعظم ما في طوفان الأقصى أنه علّم الأمة كيف تُعيد قراءة الزمن بعين الإيمان، لا بعين الواقع؛ فالمؤمن حين يثبت، يُعيد تعريف الممكن، ويكسر احتكار العدو لمعنى النصر والهزيمة.

وحين يستقر هذا الوعي في النفوس، يصبح الثبات فعلًا يوميًا لا شعارًا، ومصدر طمأنينةٍ لا انتظار. فالثابت لا يترقب الفرج كحدثٍ خارجي، بل يحمله في قلبه؛ لأن الله وعده أن يكون معه ما دام على الطريق: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. ومن كان الله معه، لا يضرّه إن خذله العالم.

الثبات إذًا ليس أن نصمد في وجه العاصفة فحسب، بل أن نقرأ العاصفة بوصفها جزءًا من الرحلة، وأن نرى في طول الطريق رحمةً خفية، وفي قسوة الواقع دليل صدق. فهكذا تُصنع الأمم المؤمنة: لا في لحظة النصر، بل في لحظة الصبر التي تسبقها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى الذين يقولون: أين الله مما يحدث في غزة!!

عندما تشتد المحن وتقوى الابتلاءات ويكون الباطل منتفشاً وله دولة، وفي الجانب الآخر تتناثر أشلاء …