من الظواهر التي روّجت لها الدراميات المستهترة بحرمات الله تعالى وحدوده، حتى ذاعت على أرض الواقع تحت دعوى كونها مسألة "قرار شخصي" بحت، لا قول لله تعالى فيها، أن تكتشف مطلَّقة حملها بعد طلاقها، فتخفي الخبر عن طليقها عقابًا أو انتقامًا أو غير ذلك، وتقرّر القيام على الطفل أو اتخاذ قرار بخصوصه بمفردها.
ثم تأمل في قول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228]، تجد أن الله تعالى نَسَب الرَّحِم إليها والجنين إليه، وفيها لفتة بيانية عظيمة؛ فإذا كان الله تعالى هو خالق أصغر ما في تلك الحلقة، فكيف بالرَّحِم وصاحبتها إذن؟ فالإنسان وما ملك من مُلكٍ، ولو كان بدنه، مملوك لله تعالى ابتداءً وانتهاءً.
وإذا لم يكن لمملوك في الدنيا أن ينازع مالكًا من البشر في ملكه المجازي، فكيف بالعبد المملوك حقيقةً أمام ربّ العالمين المالك لكلّ شيء مطلقًا وحقيقةً؟
الإنسان وما ملك من مُلكٍ، ولو كان بدنه، مملوك لله تعالى ابتداءً وانتهاءً.
ثم خُتمت الآية بشرط الإيمان بالامتثال للحكم وعدم الكتمان؛ إذ كيف يجتمع إيمان بالله تعالى مع الاجتراء على إتيان محرّماته على استهانةٍ واستخفافٍ بحدود الله تعالى (والجهل بهما من الاستخفاف والاستهانة)؟ وكيف يجتمع تفخيم صوت الأنا (بدني، حملي، جنيني، طفلي، حياتي، قراري...) حتى تعلو كلمته على كلمة الله تعالى، فكأنما يجعل العبد المستكبر على العبودية من نفسه نِدًّا لله تعالى ومُشرِّعًا معه، ثم يرى أنه ما يزال عبدًا مؤمنًا؟!
صحيح أنّه لا يخلو حتى المؤمن من التفريط والوقوع في معاصٍ والضعف أمام الأهواء، لكنّ الكلام ليس على مَن يضعف، بل على مَن يستكبر ويعاند في حكمٍ مستقرٍّ لمجرّد أن هواه لا ينضبط عليه! فحتى التفريط والمعاصي درجات. في سورة النجم وصف الله الذين أحسنوا بأنهم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}. ومن كُبَرَى الفواحش التقوّل على الله تعالى، سواء باتخاذ الحلال حرامًا أو الحرام حلالًا، أو تجاهل ما قال الله ورسوله في مسألةٍ لصالح اعتبارٍ شخصي أو رأيٍ من جاهل، أو غير ذلك من الصور المتقررة في مواضعها.
ويظنّ المسلم خطأً يوم يظنّ أن قمة السعادة والتحرر في الحياة أن يكون كل شيءٍ على هواه وأن يفعل ما يهوى، والحقّ أنّ هذا الحال من الانقياد الأعمى للهوى هو عنوان البؤس وقمّة العبودية الباطلة؛ إذ إنّ هدف منحة الإرادة تربية هواك، لا اتباعه، ووفاقًا لأمر الله تعالى لا منازعةً له. ولا تسعد نفسية مخلوق حتى توافق فطرة خلقه، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك التوافق – بديهةً – باتباع أيّ منهج أو مرادٍ سوى ما كان من عند الفاطر تبارك وتعالى.
الحقّ أن الانقياد الأعمى للهوى هو عنوان البؤس وقمّة العبودية الباطلة
ومع ذلك البيان الواضح في شرعة الله تعالى، تنتشر نزعة الاستكبار القارونية بالحرية الإنسانية وعظمة الإرادة الإنسانية وتقديس "حقّ" الإرادة والاختيار بإطلاق، بين المسلمين وغيرهم، كما قال قارون من قبل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]، وذلك بسبب التأثر بالأدبيات المستوردة القائمة على الكفر بالله تعالى ونكران المخلوقية وتأليه الإنسانية، واتخاذ الإنسان مركزًا للكون قائمًا بذاته، وَيكأنّا لم يبلغنا قول ربّنا تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
ويكثر افتخار المسلمين اليوم بأن الله آتى الإنسان العقل والحرية، فلا بدّ أن يستعملهما أقصى استعمال، ثم تكون الترجمة لذلك أن يُسيء استعمالهما، بدل تفعيل هذه الطاقات وفق أمر الله تعالى وتفوّقًا بها على مَن يكفرون به، تُفعَّل هذه الطاقات مجابهةً لله تبارك وتعالى، واجتراءً عليه، وعنادًا معه، وكبرًا عليه، وجهلًا به سبحانه!
فأين المنطق في هذا المسلك المعاكس لمعنى عقيدتك؟ وأين العقل في مخالفة مَن أعلنت الإيمان به ربًّا لك؟ وأين احترام النعمة العظمى التي لا تفوقها نعمة، وهي أن الله تعالى منَّ عليك فَوُلِدتَ مسلمًا، أي دخلت جاهزًا في حمى الحقّ والأمان والرحمة من العذاب الخالد في نار الكفر؛ كلّ ذلك بغير أن تستحقّه أو تبذل أدنى جهدٍ لكسبه. وإنما كان كلّ الجهد المطلوب منك أن تُسْلِم حريتك لله الذي خلقك فسوّاك فعدلك فآتاك إياها! فتتعلّم أمر الله تعالى، وتفهم عنه، فتوافق واعيًا مختارًا فطرة الله فيك.
إنّ الغاية من هذا الوجود هي إقامة مراد الله تعالى فيه، وليس تلبية مرادات البشر منه. ومراد الله تعالى أن يعبده خلقه، ويُعبّدوا أرضه وفق حكمه. وكلّ مخلوقات الله تعالى مقهورةٌ على أمره، لا تملك إلا تنفيذ مشيئته تعالى. وكذلك كان ليكون حال بني آدم لولا أن مشيئة الله تعالى قضت بإيتائهم قدرًا من حرية الإرادة لاختبارهم في تصريفها: أيصرفونها وفاقًا لأمره فيرضى عنهم ويثيبهم، أم خلافًا له فيغضب عليهم ويعاقبهم.
وتأمّل كيف يمكن لابن آدم أن يقود بغلةً كبيرةً لكن يستعصي عليه برغوثٌ صغير، مع أنّ الإنسان واحدٌ في الحالين! لأنّ الله تعالى جعل هذا الكائن من المسخَّرات للإنسان، أي التي يمكن أن يذلّلها ويُخضعها ويستفيد منها، بينما تلك الحشرة الصغيرة من غير المأذونات بتسخيرها! فالله تعالى هو الذي يأذن ويمنح، أو يمسك ويمنع. فالحاصل أنّ الإنسان ليس حرًّا على وجه الإطلاق، وإنما هو حرّ بقدرٍ مقدور، في مساحات معيّنة، لمرادٍ محدّدٍ ومبيَّنٍ له جملةً وتفصيلًا.
وهذه الأطر والحدود لا تعرقل إرادة الإنسان التي قدّرها خالقه له في مساحات كسبه وحركته التي كلّفه بها ويحاسبه عليها، فكلّها من مشكاةٍ واحدة. وكلّ الخلط الحاصل في مسألة الحرية والإرادة منشؤه الجهل بأحكام الله تعالى وسُنَنه في الأنفس والآفاق، مع التأثر الشديد بأخلاط الثقافات الكافرة ومستورداتها.
إنّ طاقة الإرادة المودعة في الإنسان تتقلّب بين منحةٍ ومحنة، والمطلوب أن يُري الله من نفسه خيرًا
ثم إنّ إرادة الإنسان هبةٌ محضةٌ من عند الله تعالى، وليس للإنسان فضلٌ في اكتسابها، ناهيك أن يكون قد أنشأها في نفسه! فطاقة الإرادة "منحة" من الله على بني آدم، وليست حقًّا استحقّوه ذاتيًّا على الله تعالى. ومتّعهم الله بها لامتحانهم فيها، لا ليطيشوا بها حتى تبلغ بهم الجرأة أن يتطاولوا على مقام الربوبية، ويتّخذوا من أنفسهم أندادًا لمقام الألوهية، بالمساءلة والمعارضة وانتقاء الاتباع وفق ما يوافق أهواءهم!
وعليه، فالمسلم أولى الناس باستشعار مخلوقيته، وإدراك أنّ طاقة الإرادة المودعة فيه تتقلّب حقيقةً بين منحةٍ ومحنة، ليس له في الأولى فضل، ولا في الثانية اختيار، وأنّ غاية المطلوب من العبد المسلم أن يُري الله تعالى من نفسه خيرًا، ويصدق في طلب مرضاته، فيوفّقه الله تعالى لما يحبّه ويرضاه منه.
