لماذا يظل عقلنا معلّقًا بالأمور التي لم نتمّ إنجازها؟

الرئيسية » بصائر من واقعنا » لماذا يظل عقلنا معلّقًا بالأمور التي لم نتمّ إنجازها؟
62fd50ac-b755-40e3-be6c-13d402ff84ba

هل وجدت نفسك يومًا غير قادر على التوقّف عن التفكير في مهمّة لم تنتهِ منها بعد؟ تُعرَف الظاهرة التي تحتلّ فيها المهام غير المنجزة عقلنا بشكل أكبر من المهام التي فرغنا منها بالكامل باسم «تأثير زيجارنيك». وقد سُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى عالمة النفس الروسية «بلوما زيجارنيك». وتلعب هذه الظاهرة دورًا مهمًا في الذاكرة، وفي عملية التحفيز، وفي تصميم تجربة المستخدم (UX Design).

تعريف تأثير زيجارنيك:

يشير تأثير زيجارنيك إلى الميل النفسي لتذكّر المهام الناقصة وغير المفروغ منها بشكل أفضل من المهام المنتهية. أول مَن اكتشف هذا التأثير هي عالمة النفس الروسية بلوما زيجارنيك عام 1927 من خلال تجارب أجرتها في جامعة برلين. أظهرت دراستها أن النُّدُل في المطاعم كانوا يتذكّرون الطلبات غير المدفوعة بشكل أوضح من الطلبات التي دُفع حسابها، مما أدّى إلى المزيد من الأبحاث حول كيف تؤثّر المقاطعة أو الانقطاع عن إتمام العمل في الذاكرة والدافع الداخلي.

حين لا تُتمّ عملًا ما، يقرأه الدماغ على أنّه «عمل غير منتهٍ»، مما يؤدّي إلى استمرار التفكير فيه. ويُحفّز ذلك شعورًا يُسمّى اصطلاحًا «التوتّر المعرفي» (Cognitive Tension) الذي يشجّع الأفراد على إتمام المهام لاستعادة التوازن الذهني.

تُعرَف الظاهرة التي تحتلّ فيها المهام غير المنجزة عقلنا باسم تأثير زيجارنيك

أبرز العوامل المؤثرة في تأثير زيجارنيك:

  • الاستثمار العاطفي: كلما كان الشخص أكثر تعلّقًا عاطفيًا، زاد تأثير زيجارنيك.
  • مرور الوقت: يتضاءل التأثير بمرور الوقت وضعف الذاكرة.
  • صعوبة المهمة: المهام الأكثر صعوبةً وتعقيدًا تؤدّي إلى تأثير أقوى بسبب التركيز الذهني الكبير.

الآليات النفسية وراء تأثير زيجارنيك:

يرتبط تأثير زيجارنيك بعمق بعلم النفس المعرفي وبالمبادئ الكلّية للإدراك (Gestalt Principles).

الإجهاد الذهني وتشفير الذاكرة:
عندما تُترك مهمّة دون إتمامها، يعطيها الدماغ أولويةً ويبقيها في الذاكرة النشطة. وهذا يفسّر لماذا تقتحم المهام الناقصة أفكارنا وتجعلنا أكثر ميلًا للعودة إليها؛ حيث يتعامل الدماغ مع المهام غير المنتهية على أنها مشكلات غير محلولة، ويحتفظ بها في الذاكرة النشطة لضمان إنجازها لاحقًا.

الدافع الداخلي:
الشعور بعدم إتمام العمل يخلق رغبةً نفسيةً في إنهاء ما بدأته. يُستَخدم هذا المبدأ كثيرًا في «التلعيب» (Gamification)، أي إدماج عناصر اللعب واستراتيجيات التفاعل الرقمي، حيث تدفع المهام غير المنتهية المستخدمين إلى إكمال أهدافهم. ويُشار إلى هذا الدافع الداخلي اصطلاحًا بوصفه «تكيّفًا تطوّريًا» (Evolutionary Adaptation) يساعد البشر على المثابرة في تحقيق الأهداف طويلة المدى.

السلوك الموجّه نحو الهدف:
يسعى الدماغ دائمًا إلى الوصول للختام ونهاية أي عمل، وحتى تصل المهمة إلى نهايتها يبقى الدماغ في حالة إلحاحٍ واستدعاءٍ مستميت ليُتمّ الإنسان العمل. وهذا يفسّر لماذا يشعر الناس بعدم الراحة الذهنية عندما لا يُتمّون مهمةً ما. العديد من استراتيجيات الإنتاجية، مثل تقنية «بومودورو»، تستفيد من هذا المبدأ للحفاظ على التركيز وضمان إنجاز المهام.

الاستجابة العاطفية والإحباط:
يمكن للمهام غير التامة أن تُسبّب مشاعر القلق والتوتّر، مما يخلق عند الإنسان حافزًا قويًا ورغبةً في إكمالها. يظهر ذلك بوضوح في السرد القصصي والترفيه، حيث تجعل النهايات المفتوحة (Cliffhangers) الجمهورَ متحمّسًا للعودة مرة أخرى واستكمال المتابعة. وغالبًا ما يستفيد المسوّقون والمصمّمون من هذه الاستراتيجية في الإعلانات، حيث يتركون في نفوس العملاء شعورًا مستمرًا بالفضول والرغبة في العثور على حل.

يتعامل الدماغ مع المهام غير المنتهية على أنها مشكلات غير محلولة، ويحتفظ بها في الذاكرة النشطة لضمان إنجازها لاحقًا

تطبيقات تأثير زيجارنيك في تصميم تجربة المستخدم (UX Design):

يُعدّ تأثير زيجارنيك ظاهرةً نفسيةً بالغة الأهمية في تشكيل تجارب المستخدمين؛ فهو يشير إلى أن الأشخاص يتذكّرون المهام الناقصة ويشعرون بدافعٍ قويٍ لإتمامها. ويُستخدم هذا المبدأ على نطاقٍ واسع في تصميم تجربة المستخدم لتعزيز تفاعل المستخدمين والحفاظ عليهم كمستخدمين للخدمة، وذلك من خلال الوسائل التالية:

1) زيادة التحويلات في التجارة الإلكترونية:
تأثير زيجارنيك فعّال جدًا في دفع المستخدمين نحو اتخاذ قرارات الشراء من خلال تطبيق «نظرية الحث السلوكي» (Nudge Theory)، وهي نظرية في الاقتصاد السلوكي تعمل على توجيه سلوك الناس نحو قرارات أفضل عبر تنويهات بسيطة وغير إلزامية، بدلًا من الأوامر المباشرة أو القوانين الصارمة. فعندما يتفاعل المشترون مع منصّة تجارة إلكترونية ثم لا يُكمِلون المهمّة، تبقى الفكرة عالقةً في أذهانهم وتُبقيهم مرتبطين ذهنيًا بالمنصّة حتى يُتمّوها.

2) تشجيع التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي:
تُصمَّم منصّات التواصل الاجتماعي بحيث تضمن وجود المستخدمين على المنصّات لأكبر وقتٍ ممكن، ويلعب تأثير زيجارنيك دورًا محوريًا في ذلك. فعندما يواجه المستخدم مهامًا غير منتهية، مثل إشعاراتٍ أو رسائل غير مقروءة، يشعر برغبةٍ لا واعيةٍ في حلّها. هذا الدافع نحو الإكمال يؤدّي إلى زياراتٍ متكرّرةٍ للمنصّات، مما يعزّز التفاعل المستمر.

3) تعزيز استهلاك المحتوى:
في المنصّات الإعلامية، يمكن استخدام تأثير زيجارنيك لزيادة استهلاك المحتوى. فعندما يُعرَض على المستخدم محتوى غير مكتمل، مثل إعلانٍ تشويقي، أو مقالة تلمّح إلى معلوماتٍ إضافية، فإنه يميل إلى الاستمرار في استخدام المنصّة حتى ينهي المقالة.

فهم آليات زيجارنيك وتطبيقه بذكاءٍ يدفع الناس إلى التركيز وإتمام الأعمال قبل الانتقال إلى غيرها

أمثلة على تأثير زيجارنيك في الحياة الواقعية:

ميزة التشغيل التلقائي في نتفليكس (Netflix):
تُعدّ ميزة التشغيل التلقائي (Autoplay) في نتفليكس مثالًا واضحًا على تطبيق تأثير زيجارنيك في التصميم الرقمي؛ فمن خلال تشغيل الحلقة التالية تلقائيًا، غالبًا قبل انتهاء الحلقة الحالية، تصنع نتفليكس تجربة مشاهدة سلسة تستغلّ رغبة المستخدم في الإكمال.

نظام الأيام المتتابعة (Streak) في تطبيق دوولينجو (Duolingo):
يُعتبر نظام السلسلة في تطبيق دوولينجو مثالًا بارزًا على تأثير زيجارنيك في مجال التكنولوجيا التعليمية؛ حيث يقوم التطبيق بتتبّع عدد الأيام المتتالية التي يلتزم فيها المستخدم بتعلّم اللغة، ويعرض هذه السلسلة بشكلٍ بارز لتحفيز الاستخدام المستمر. هذا النهج يستغلّ الميل البشري لتذكّر المهام الناقصة والشعور بالحاجة لإكمالها، مما يشجّع على الممارسة اليومية وتكوين العادات التعليمية.

مؤشّر تقدّم القراءة في موقع «ميديوم» (Medium):
يُعدّ مؤشّر تقدّم القراءة في «ميديوم»، والذي يشير إلى مقدار ما أتمّ القارئ قراءته من مقالات على المنصّة، تطبيقًا عمليًا وفعّالًا لتأثير زيجارنيك؛ حيث يُمثَّل المحتوى غير المكتمل بصريًا عبر شريط تقدّم يمتلئ تدريجيًا كلما تقدّم القارئ في المقال. هذا العنصر التصميمي يستغلّ الدافع النفسي لإتمام المهام، مما يشجّع القرّاء على مواصلة القراءة حتى الوصول إلى النهاية. كما أن شريط التقدّم يعزّز تفاعل المستخدم ويوفّر شعورًا بالإنجاز عند الإكمال، بما يتوافق مع مبادئ تأثير زيجارنيك.

يُعدّ تأثير زيجارنيك مبدأً نفسيًا قويًا يمكنه تعزيز الحافز والدافع عند الإنسان. ومن خلال فهم آلياته وتطبيقه بذكاءٍ وفعاليّة، يُسهم زيجارنيك في تحفيز المستخدمين على إتمام المهام وتحقيق الإنجازات، سواء كانت تعليميةً كتطبيق دوولينجو أو تثقيفيةً كالقراءة. وبالتالي يدفع الناس إلى تحقيق مزيدٍ من الإنجازات، والتركيز في أعمالهم، والحرص على إتمامها قبل الانتقال إلى غيرها.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • https://octet.design/journal/zeigarnik-effect/
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومترجمة من مصر، مهتمة بقضايا التعليم والأسرة والتطوير الذاتي

شاهد أيضاً

صفحة من التاريخ الأسود للموساد!!

إن العقيدة الراسخة للكيان الصهيوني المحتل هي ملاحقة واغتيال كل من له دور في مناهضة …