أزمة القيادة: من يملك حقّ التصحيح.. ومن يملك حقّ العزل؟

الرئيسية » بصائر الفكر » أزمة القيادة: من يملك حقّ التصحيح.. ومن يملك حقّ العزل؟
Influencer, opinion leader, team leader, CEO

القيادة في الحركات الإسلامية ليست وظيفة إدارية ولا منصبًا تنظيميًا، بل هي موقع محوري يتشكل عند تلاقي العلم الشرعي، والفكر الرشيد، والخبرة العملية. والحركة التي تُحسن فهم القيادة تبني مشروعًا قادرًا على الاستمرار؛ أما التي تسيء فهمها فتسقط في التقديس أو الفوضى، وكلاهما نقيض للمنهج الإسلامي.

القيادة في المشروع الإسلامي… العقل قبل الموقع

من خصائص المشروع الإسلامي أنه لا يجعل القيادة مجرد سلطة، بل أمانة ومسؤولية ومرجعية فكرية. فالقيادة في هذا السياق لا تقوم على الجماهيرية ولا على البلاغة الخطابية، بل على ثلاثة أعمدة رئيسية:

  • المنهج العلمي الذي يضبط الاتجاه
  • البصيرة التي تقرأ الواقع بما يوافق مقاصد الشريعة
  • الخبرة التي تربط الفكرة بالفعل

فالقيادة في التاريخ الإسلامي كانت دائمًا “إمارة فكر” قبل أن تكون “إمارة قرار”، لأن العقل القيادي هو الذي يوفّر الضبط المنهجي للفكرة، ويرسم الحدود بين الثابت والمتحول، ويحدد أولويات الدعوة والمقاومة والسياسة.

الحركات الإسلامية التي نجحت عبر السنين لم تنجح لأنها امتلكت هياكل تنظيمية ضخمة، بل لأنها امتلكت عقولًا تحمل المشروع وتحرره من العشوائية.

وبقدر ما تكون القيادة ذات تكوين علمي وفكري راسخ، تكون الجماعة قادرة على:

  • مواجهة الانحراف
  • قراءة المستجدات
  • ضبط الاجتهاد
  • توحيد الصف

ومتى تحولت القيادة إلى مجرد “إدارة” بلا منهج، سقطت الحركة في فقه اللحظة بدل فقه المشروع، فتتناقض أقوالها وأفعالها، أو تتأرجح بين الاندفاع والجمود.

متى تحولت القيادة إلى مجرد “إدارة” بلا منهج، سقطت الحركة في فقه اللحظة بدل فقه المشروع، فتتناقض أقوالها وأفعالها، أو تتأرجح بين الاندفاع والجمود

ولهذا فإن القيادة التي تُحسن تنظيم الطاقة الإيمانية والفكرية للجماعة تُصبح رافعةً حضارية، بينما القيادة التي تخلط بين الرأي الشخصي والمرجعية الشرعية تجرّ الحركة إلى أزمات داخلية تستهلك قوتها.

القيادة الراشدة إذًا ليست امتيازًا، بل تكليفٌ يُحاسَب صاحبه قبل غيره، ولها شروطٌ وموازين لا تُختصر في الولاء ولا في الحماسة، بل في القدرة على الجمع بين العلم والوعي والقدرة على اتخاذ القرار.

انحراف القيادات… ظاهرة طبيعية لا تخيف المشروع

من أخطر أخطاء الوعي الحركي الحديث هو “الصدمة” عند انحراف بعض القادة أو سقوطهم أخلاقيًا أو فكريًا. لكن الحقيقة أن الانحراف الفردي جزء طبيعي من التاريخ الإنساني، بل من تاريخ الدعوات نفسها.

  • في الأمم السابقة انحرف علماء وقادة.
  • وفي صدر الإسلام ارتدّ بعض من كانوا في الصفوف الأولى.
  • وفي كل حركات الإصلاح وُجدت قيادات فقدت البوصلة أو ضعفت إرادتها.

هذه ليست نهاية المشروع، بل اختبار لصلابة المنهج. فالحركة التي تربط قوتها بشخصٍ واحدٍ تتداعى بسقوطه. أما الحركة التي تربط نفسها بالحق والمنهج فتبقى مهما تعثّر بعض أبنائها. إضافة لما سبق فالإسلام لم يقدّس الأشخاص، ولا جعل في التاريخ “معصومين” خارج الأنبياء.

ولهذا، فإن وجود الانحراف داخل أي حركة لا يعني فشلها، بل يعني أنها تتحرك داخل الواقع البشري الطبيعي حيث:

  • يضعف البعض،
  • يخطئ البعض،
  • تُفتن النفوس،
  • ويقع التنافس والاختبار.

لكن الفرق بين الحركات التي تنجو والتي تنهار هو قدرتها على إقامة نظام للمحاسبة والشفافية. فالحركة التي تمتلك آليات ولوائح واضحة لمراقبة الأداء، ومراجعة الاجتهادات، وتقييم القادة، ومنع تضارب المصالح، هي حركة قابلة للبقاء والتجدد.
أما الحركة التي تقدّس رموزها فلا ترى أخطاءهم، وتعتبر النقد خيانة، فهي تزرع بذور الانقسام داخل نفسها. ومن هنا نفهم أن المحاسبة ليست تهديدًا للوحدة، بل ضمانة لاستمرارها.

فالقيادة السليمة لا تخشى النقد، ولا تخاف التغيير، لأنها تدرك أن الهدف ليس “سلامتها الشخصية” بل سلامة المشروع.

فالقيادة السليمة لا تخشى النقد، ولا تخاف التغيير، لأنها تدرك أن الهدف ليس “سلامتها الشخصية” بل سلامة المشروع

لا ثيوقراطية في الإسلام… والتبديل سنة وليس فضيحة

التيوقراطية — أي “حكم رجال الدين باسم القداسة” — هي أخطر الانحرافات التي يمكن أن تقع فيها حركة إسلامية. فالإسلام دين لا يمنح أحدًا سلطةً مطلقة، ولا يعطي أي قيادة صفة القداسة، ولا يجعل الاجتهاد البشري منزّلًا. ولهذا قال رسول الله ﷺ:
«كل بني آدم خطّاء» (رواه الترمذي).

فالقيادة الإسلامية بطبيعتها قيادة مدنيةٌ في وظيفتها، شرعيةٌ في قيمها، تُحاسَب، وتُنتقد، وتُعزَل، بل قد تكون مخطئة أو مقصرة دون أن ينقص ذلك من مكانة المشروع.

ومن أخطر المفاهيم التي يجب تفكيكها داخل الحركات الإسلامية:

  • أن القائد إذا أخطأ فهو “مستهدَف”
  • وأن تغييره مؤامرة
  • وأن استبداله تآمر خارجي
  • وأن النقد ضعف

هذه عقلية ريعية لا علاقة لها بالعمل الإسلامي. ففي المحصلة: لا يوجد قائد فوق النقد، ولا مسؤول فوق المراجعة، ولا موقع فوق التغيير. بل إن التبديل سنة من سنن الله في العمران: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

الحركات التي فهمت هذا القانون بقيت شابةً وقادرةً على التجدد، بينما ماتت الحركات التي تحولت إلى “أضرحة تنظيمية” لا تتغير قياداتها إلا بالوفاة.

الحركات التي فهمت قانون المحاسبة والتغيير بقيت شابةً وقادرةً على التجدد، بينما ماتت الحركات التي تحولت إلى “أضرحة تنظيمية” لا تتغير قياداتها إلا بالوفاة

القيادة في الإسلام دورٌ يُؤدّى، لا ملكيةٌ تُورَّث. وكلما كان التغيير سلسًا ومؤسسيًا، كانت الحركة أكثر قدرة على:

  • تجنّب الفساد
  • تجاوز الأخطاء
  • استيعاب الأجيال الجديدة
  • تحديث رؤيتها
  • وضمان الثبات على المنهج

بهذا المعنى، فإن التغيير ليس تهديدًا للقيادة… بل هو شرطٌ لصحتها.

ختاما.. في المنهج الإسلامي، لا يملك القائد أن يُثبّت نفسه، ولا يملك الأتباع أن يعزلوه بالهوى، بل يعود حقّ التثبيت والعزل إلى المؤسسية التي تعبّر عن الشورى الجامعة. فالجماعة ليست ملكًا لأحد، وإنما هي أمانةٌ مشتركة بين أهل العلم الذين يضبطون الشرع، وأهل الخبرة الذين يعرفون المصلحة، والصفّ العامل الذي يحمي المشروع. ولذلك فإن العزل ليس فعلًا انتقاميًا ولا رأيًا فرديًا، بل قرارٌ يصدر عن هيئات الشورى والقيادة الجماعية التي تُراجع الأداء، وتزن القدرة، وتقدّر المصلحة، وتتحرك ضمن ضوابط الشرع وسياق الواقع.

إن القائد في المشروع الإسلامي يُحاسَب ويُراجع ويُستبدل إذا اقتضت المصلحة، لأن البقاء للمنهج، لا للوجوه، وللمشروع لا للأسماء، وللأمة لا للأفراد. بهذا فقط يبقى العمل الإسلامي حيًا قادرًا على التجدد، وتبقى القيادة تكليفًا لا تشريفًا، وأمانة لا سلطة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى الذين يقولون: أين الله مما يحدث في غزة!!

عندما تشتد المحن وتقوى الابتلاءات ويكون الباطل منتفشاً وله دولة، وفي الجانب الآخر تتناثر أشلاء …