لم تكن المقاومة عبر التاريخ صنيعة السنين الطويلة، بل ومضةَ وعيٍ تُشعلها قلوب الشباب المؤمنين. في كل مرحلةٍ من مراحل الأمة، كان الشباب هم الذين يسبقون زمانهم، يحملون في أيديهم مشاعل التغيير، وفي صدورهم صدق الإيمان. واليوم، بعد “طوفان الأقصى”، عاد جيلٌ جديدٌ يذكّر الأمة بأنّ الشباب ليسوا جمهورًا يُوجَّه، بل روحُ مشروعٍ يُصنع.
الشباب طاقة الفكرة وسرّ التحوّل
حين نقرأ القرآن نجد أن أعظم التحولات في التاريخ ارتبطت بفتيةٍ آمنوا بفكرةٍ وواجهوا بها واقعًا من الفساد والطغيان. قال تعالى:
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
لم تكن كثرتهم ولا قوتهم هي التي صنعت الفرق، بل صفاء العقيدة وجرأة المبادرة. ومنذ ذلك الحين، صار مصطلح “الفتية” في الوجدان الإسلامي عنوانًا للانطلاق والإصلاح والتجديد.
في كل دعوةٍ إصلاحية، يبقى الشباب هم الميدان الأخصب للتغيير. فهم الأكثر استعدادًا للتضحية، والأقل تلوثًا بحسابات المصلحة، والأقدر على الجمع بين الإيمان والفعل.
وحين تضعف الأمة، يكون الشباب هم أول من يتذكّر أنّ الله وعد بالتمكين للمستضعفين، لا للمترفين.
لقد وعى المؤسسون الأوائل للحركة الإسلامية هذا القانون، فاستثمروا طاقة الشباب في الدعوة والتربية والعمل العام.
كانت المدارس التربوية للإخوان المسلمين، ثم حركات المقاومة، تقوم على تحويل الاندفاع العاطفي لدى الشباب إلى وعيٍ منضبطٍ بالشرع والمنهج. فالإيمان وحده لا يكفي ما لم يتحوّل إلى وعي، والوعي لا يكفي ما لم يُترجم إلى فعلٍ منظمٍ واعٍ.
في التجربة الفلسطينية الحديثة، شكّل الشباب العمود الفقري لكل انتفاضةٍ ومقاومة. من رشق الحجارة في الانتفاضة الأولى، إلى من حمل السلاح في “طوفان الأقصى”، لم يكن التغير في الأدوات فقط، بل في عمق الوعي ووضوح البوصلة.
جيل اليوم لم يعد يتحرك بدافع الحماسة المجردة، بل بعقيدةٍ يدركها وفكرٍ يعيه. صار يرى الجهاد امتدادًا للدعوة، والميدان امتدادًا للمسجد، والفكرة أكبر من الفصيل والسلاح.

هذا التحول الوعيّ في صفوف الشباب الإسلامي هو الذي جعل المقاومة تنتقل من ردّ الفعل إلى صناعة الفعل. فجيل الطوفان لم ينتظر توجيهًا خارجيًا، بل أبدع التخطيط والتنفيذ بوعيٍ مؤسسيٍّ قائمٍ على الثقة بوعد الله قبل كل شيء.
الشباب اليوم هم صُنّاع الوعي الجديد، يكتبون بخط الدم ما نسيته الأجيال الراكدة من معاني النصر والكرامة. هم الذين يفهمون أن المقاومة ليست موسمًا من الغضب، بل مسارًا من التربية والتزكية والبناء.
جيل الطوفان أعاد تعريف البطولة في وعي الأمة؛ فالمقاوم الحقيقي ليس من يملك السلاح، بل من يملك الإيمان الذي يُحوّل العجز إلى قدرة
جيل الطوفان.. وعيٌ جديدٌ في زمنٍ متغيّر
إنّ طوفان الأقصى لم يكن مجرد عمليةٍ عسكرية، بل حدثًا جيلِيًّا يعيد تعريف المقاومة والبطولة. لقد قدّم الشباب الفلسطيني معادلةً جديدة: أن الإيمان لا يشيخ، وأنّ من تربّى على القرآن قادرٌ على مجاراة أحدث تقنيات الحرب.
في وجه آلةٍ عسكريةٍ هي الأقوى في المنطقة، وقف جيلٌ وُلد تحت الحصار، لا يعرف إلا الألم طريقًا، لكنه آمن أن الله يُخرج من بين الرماد شعلة.
جيل الطوفان لا يملك كثيرًا من السلاح، لكنه يملك ما هو أعظم: الثقة المطلقة بوعد الله، والعقل المنظّم، والإيمان العميق بأنّ الكرامة لا تُستجدى بل تُنتزع.
في لحظةٍ واحدة، أسقط هذا الجيل أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وأثبت أنّ الإعداد الإيماني يصنع ما تعجز عنه الجيوش.
لكنّ الأهم من النصر العسكري هو النصر المعنوي الذي صنعه في وعي الأمة.
لقد أعاد الشباب تعريف مفهوم “القدوة” في الوجدان الإسلامي؛ لم تعد القدوة تلك التي تتكلم في المنابر، بل تلك التي تترجم الفكرة إلى فعلٍ في الميدان.
هؤلاء الشباب يربّون الأمة بالفعل، كما ربّاها الأنبياء بالصدق.
والحركات الإسلامية اليوم مطالَبة بأن تدرك أن الشباب ليسوا جناحًا ثانويًا، بل جوهر المشروع كله. فالتربية التي لا تزرع في الشاب الإقدام والوعي مصيرها أن تنتج جيلًا هشًّا يتكلم عن الجهاد ولا يعرف معناه.
أما التربية التي تجمع بين العلم والعمل، وبين الذكر والفكر، فهي التي تخرّج الجيل الذي يقود الأمة نحو النصر.
حين يتحرّك الشباب بإخلاصٍ ووعيٍ وتنظيم، تتحوّل الدعوة إلى نهضة، والمقاومة إلى مشروع حضاري يُعيد الأمة إلى مركز التاريخ
لقد أثبتت تجربة حماس، ومعها كلّ فصائل المقاومة، أنّ الثقة بالشباب لا تُخيب.
حين أُتيح لهم المجال، ابتكروا في الميدان، وطوّروا في الإعلام، وأبدعوا في الحرب الإلكترونية، وأعادوا للمقاومة شبابها.
جيل الطوفان هو نتيجة مباشرة لمدارس الوعي والتربية الإيمانية التي أنشأتها الحركات الإسلامية خلال عقود، وهو الردّ العملي على من ظنّ أن التربية لا تصنع رجالًا.
في زمنٍ ينهار فيه المعنى في العالم، يثبت هؤلاء الفتية أن الإيمان لا يزال قادرًا على إنتاج المعجزات.
وأنّ المشروع الإسلامي، مهما حُوصِر أو شوِّه، يظلّ حيًا في قلب الشباب الذين يرون في القرآن وعدًا لا شعارًا، وفي الشهادة حياةً لا نهاية.
هؤلاء الشباب لا ينتظرون اعترافًا دوليًا ولا تصفيقًا إعلاميًا، بل ينظرون إلى السماء ويقولون كما قال من قبلهم: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30].
هم الذين يكتبون الفصل القادم من تاريخ الأمة، لأنهم الجيل الذي تخرّج من مدرسة الإيمان والوعي والعمل.

