خَلَقَ الله تعالى الخلق لتوحيده وعبادته، وشرع لهم من مختلف صور التعبد البدنية والقلبية ما يعبّرون به عن عبوديتهم له. وهذا يقتضي أن الله تعالى قد خلق عباده مُهَيَّئين لغاية خَلقهم وما كَلَّفهم به. ثمَّ يضاف لذلك التيسير العام تيسير خاص للعبد المؤمن والمجاهد الصادق، بأن يعينه الله تعالى على الطاعة ويوفّقه إليها، ويتولّاه في كل أحواله حتى حين يذنب ويخطئ، فيردّه ردًّا جميلًا ويحفظه من ضياع إيمانه.
وتلك التهيئة لا تنفي وجود مشقة على مدى رحلة المجاهدة للامتثال، ومكابدة الثبات على الاستقامة؛ فإنّ المجاهدة والمكابدة:
أولًا: مقصودتان في حقّ المؤمن لامتحانه وتمحيصه:
فالصعوبة تعني الجهد والمجاهدة، ولا تعني استحالة العبادة، ولا معاندة التكليف لطاقة الإنسان وإن خالف نزعات الهوى فيه:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ الله تعالى الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16].
ثانيًا: هما من المَشَقّة لا الشقاء:
إذ إنّ معاناة قدر مشقة عمومًا أثناء مجاهدة التزام التكليف ومخالفة دواعي الهوى، لا تعني أن امتثال أمر الله تعالى يورث صاحبه الشقاء. بل إنّ الدين يُسِّر ليرفع عن الإنسان الشقاء في الحياة، الذي سينبع بالضرورة من معاكسة فطرة خَلقه وطبائع الوجود ومقاصد إيجاده، ومن صور تلك المعاكسة اتباع الهوى والانسياق وراء الملذات والشهوات، فهو يورث صاحبه على المدى البعيد الشعور بالخواء الداخلي واحتقار الذات والقلقلة وعدم الاستقرار، وهذا هو الشقاء بعينه. أما الامتثال والاستقامة على الطريقة المَرْضيّة فتعني الاتساق والانسجام مع مراد الله تعالى في خلقه ومن خلقه، ومن هنا يكون اليسر؛ أي انشراح الصدر وصلاح البال واطمئنان السّريرة بموافقة طريق الحق، دون أن يتعارض ذلك مع وجود صعوبات في الطريق وأثناءه:{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
ثالثًا: هما نوعان:
كُلّي: فقد طُبِعَت الحياة عامة على كَبَد، يَستوي في مُكابدته مُتَّبع طريق الحق أو غيره من الطرق. وجاء في معجم لسان العرب: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ يُكَابِدُ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ... وَمُكَابَدَةُ الْأَمْرِ مُعَانَاةُ مَشَقَّتِهِ. وَكَابَدْتُ الْأَمْرَ إِذَا قَاسَيْتُ شِدَّتَهُ. وَفِي حَدِيثِ بِلَالٍ: أَذَّنْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكَبَدَهُمُ الْبَرْدُ؟ أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَضَيَّقَ، مِنَ الْكَبَدِ، بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الشِّدَّةُ وَالضِّيقُ، أَوْ أَصَابَ أَكْبَادَهُمْ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْكَبِدَ مَعْدِنُ الْحَرَارَةِ وَالدَّمِ وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهَا إِلَّا أَشَدُّ الْبَرْدِ... وَالرَّجُلُ يُكَابِدُ اللَّيْلَ إِذَا رَكِبَ هَوْلَهُ وَصُعُوبَتَهُ".
جزئي: من حيث إنّ مكابدة التعبد لله تعالى وإن كانت دائمة على مدى العمر، فهي مؤقتة لكل نوع عبادة، تكابدها فترة حتى ييسّرك الله تعالى لها وتعتادها، كما تجاهد نفسك للانتظام على صلاة الفجر حينًا إلى أن تستقيم على ذلك، أو تكابد خُلقًا مُعيّنًا تتخلق به أو تتخلى عنه إلى أن تتطبع بالطبع الجديد. وذكر ابن القيّم في "الجواب الكافي": "لا يَزال المرء يُعاني الطَّاعةَ حتى يألَفها ويحبَّها، فيُقيّض الله تعالى له ملائكةً تَؤُزُّه إليها أزًّا، توقظه من نومه إليها، ومن مجلسه إليها" ا. هـ.
يُسْر التكليف مع المشقة لا على الرغم منها
ركَّب الله تعالى في العبد قابلية اعتياد الخير كما الشر. وفي الحديث: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ"1. وقال تعالى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)} [الليل]، وفي تفسير القرطبي: "نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها". وفي المقابل:{وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)}.
وتأمل في هذه الآيات الجامعة بين الدلالتين: يُسر، أي إمكان التكليف، مع وجود مشقة في الامتثال لتمحيص المؤمنين:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]؛{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، وفي تفسير الطبري: "أي ثقيل مَحمَلُه، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه".
{يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؛{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
{وَالله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]، وفي تفسير القرطبي: "لأعنتكم أي: لَكَلَّفكم ما يَشتَد عليكم أداؤه ويُضيَّق عليكم، ولكنه خفّف عنكم؛ عزيز: لا يمتنع عليه شيء؛ حكيم: يتصرف في مُلكه بما يريد، لا حَجْر عليه جلَّ وتعالى".
خُلق الإنسان ضعيفًا
بناء عليه، فقد أُعطي العبد وُسعًا على قدر تكليفه، وكُلِّفَ لا على الرغم من ضَعْفه بل وفاقًا له، فالخلقة من الخالق، والتكليف من الرب الذي خلق. لذلك لا الضعف مانع صاحبه من أخذ حياته بقوة، ولا أخذ الحياة بقوة مانعٌ صاحبَه من الانزلاق لما لا بدّ لابن آدم أن يذوقه ويَجِده من وَهْن بدني، وتَرَاخٍ وجدانيّ، وفتور وحزن وألم، وانجراف وراء الهوى، وغير ذلك من مقتضيات الضعف البشريّ في منسوبه السَّويّ والطبيعي. فإنما هي أحوال وأطوار النفوس في الحياة، وكلّ حَوْل وكل طور له عبودية وقته. ومن هنا كان الضعف عبوديّة، أي من صميم العبودية (الافتقار) حين نتوجه به لله تعالى ونستعين به عليه.
وأيّ مُكلَّف لا يقدر حقيقة على شيء من التكليف إلا بالله تعالى، مهما ظنّ بما بلغه من قوة أو أقعده من ضعف. وهذا من معاني "لا حَوْل (أي لا طاقة ولا حيلة) ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
وتأمل في كامل السياق للآية الكريمة التي ذُكِر فيها خلقُ الإنسان ضعيفًا:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء].
تأمل كيف بدأت الآيات بنبرة طمأنة وثقة لكل مُكلَّف، مهما ثَقُل عليه التكليف، أنْ يذكر أنّ الذي كلّفه هو خالقه، الذي يعلم ما خلق وما شرع، وأنه تعالى مولاه الذي لا يريد به حقيقة إلا اليسر والخير:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]؛{ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]. ثم تعلو النبرة للتهديد والوعيد الحاسم والحازم لمن يشتطّ في استثقال أمر الله وخلقه، فيَجترئ بذلك على ربّه في ملكه وتقديره، ويصادر ضمنًا أحكامه تعالى بالتيسير والعدل، لذلك وُصِفَ بالظلم والعدوان.
والخلاصة أن مشقة المجاهدة واردة إجمالًا في أي عمل يُقدِم عليه العبد (كالقيام للصلاة) أو يمتنع عنه (كالامتناع عن الأكل والشرب وقت الصيام)، إلا أنها مشقة لا تُعارض وسع المكلف، ولا تنفي المصالح الأكيدة والحِكَم الكامنة في كل تشريعات الله تعالى، ومن باب أولى ليست مبرّرًا للالتفاف حول التشريع بتأويلات واحترازات وتعديلات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
