هل انتصرت غزة حقًّا؟ قراءة في مفهوم النصر بين الحقيقة والمظهر

الرئيسية » خواطر تربوية » هل انتصرت غزة حقًّا؟ قراءة في مفهوم النصر بين الحقيقة والمظهر
palestine1211

ذلك يرجع إلى تفريقنا الحتمي بين النصر الحقيقي والنصر الظاهر، وهما مصطلحان لنصرين متباينين جدًّا، ربما لا يفطن للتفريق بينهما البعض.

عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، ثم ننظر في تاريخ الرسل وسيرهم، فنجد منهم من لم يؤمن معه أحد، ومنهم من قتله قومه شرَّ قتلة، كيحيى الذي احتزوا رأسه، وزكريا الذي نشروه بالمنشار.

وعندما يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، ثم ننظر في التاريخ والواقع، فنجد كثيرًا ممن نصروا الله باستقامتهم على أمره وجهادهم في سبيله، ثم لم ينصرهم الله في المعركة مع الكافرين.

فلنا أن نتساءل، بل علينا أن نتساءل: أيُّ نصرٍ هذا الذي يتحدث الله عنه، وأيُّ غلبٍ هو؟!

ولنا أن نجيب، بل علينا أن نجيب: إن النصر والغلب الذي يتحدث الله عنه هنا هو النصر والغلب في الآخرة، عندما يأتي الله بالكافرين الظالمين ثم ينتصر منهم، ويأخذ حقَّ المؤمنين المظلومين.

ولكن، هل حديث الله هنا عن النصر والغلب هو حديث عن الحال في الآخرة فقط، أم أن للحال في الحياة الأولى نصيبًا من الحديث؟

عندما نريد أن نجيب عن هذا السؤال، فلا بد أن نتحدث عن قول الله لرسوله في واقعة الهجرة: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40]، ونتساءل: كيف نصره الله في هذا المشهد، وهو قد أخرجه قومه من بلده فارًّا مستخفِيًا خائفًا؟!

ثم نجيب: حديث الله عن نصره للنبي في الهجرة هو حديث عن نصرٍ في الدنيا، وهو هنا حديثٌ يتجاوز النصر الظاهر الذي نعرفه، حيث الغلب على العدو في الواقعة والحادثة غلبًا ماديًّا ظاهرًا.

النصر هنا بمعنى النصر الحقيقي الذي يعني نصرَ التثبيت على الإيمان واليقين، ونصرَ الصبر على الأذى دون إعطاء الدنية في الدين والعقيدة.

النصر الحقيقي هو نصر التثبيت على الإيمان واليقين، ونصر الصبر على الأذى دون إعطاء الدنية في الدين والعقيدة

ومن هذه نقول في تلك: حديث الله عز وجل عن أنه كتب الغلب لرسله، هو كلام ليس خاصًّا بالآخرة فقط، ولكنه كلام للدنيا والآخرة.

والغلب الذي كتبه الله لهم في الآخرة هو بأخذ حقِّهم تامًّا من عدوهم الكافر، وبإعطائهم الجزاء تامًّا في الجنة.

والغلب الذي كتبه الله لهم في الدنيا هو الثبات على دين الله وأمره حتى آخر رمق.

وحديث الله عن نصرته لمن ينصره هو النصر بهذا المعنى: نصرُ أخذ الحق في الآخرة، والتثبيت في الدنيا.

ونتذكر في ذلك قول حرام بن ملحان عندما طُعن بالحربة وأيقن بالموت شهيدًا في سبيل الله: «فزتُ وربِّ الكعبة».

فأيُّ فوزٍ هذا الذي فاز به؟! إنه الفوز بالثبات على أمر الله، والموت على أمر الله، بل ومن أجل أمر الله.

الفوز بمعنى الغلب، والغلب بمعنى النصر، والنصر نصران في الحقيقة: نصرٌ ظاهر بمعنى الفوز والغلب في أرض المعركة على العدو، ونصرٌ حقيقي بمعنى الثبات أمام العدو صابرًا محتسبًا إلى آخر رمق.

وفي المعنى يقول الشاعر:

النصر يا ناس ليس الفوز والغلبَ
والقصد يا ناس ليس الفيءَ والسلبَ
النصر في أن يراك الخصم منتصبًا
في ساحة الحق منطلقًا ومنقلبًا
والغاية الله مقصدهم ومطلبهم
وليس للقوم غير الله مطلبًا

إذن... انتصرت غزة، وفي كل حربٍ لها تنتصر، بيقينها في الله، وثباتها على جهادها، وعدم إعطاء الدنية في دينها ووطنها ومقدساتها.

قامت عليها حربٌ عالميةٌ بمعنى الكلمة، حاربت فيها إسرائيل وأمريكا وبريطانيا، والمرتزقة المستأجرون من هنا وهناك، وبعض الأنظمة الإقليمية العربية.

حارب كل هؤلاء غزة الصغيرة مساحةً وعددًا وعتادًا.

مُسحت غزة من على الأرض كمدنٍ وقرى، وقُتل منها ما يزيد على الثمانين ألفًا، وجُرح منها ما يقارب المائتي ألف.

ومع ذلك ظلت صامدة، في أعلى صور الصمود التي رأيناها في تاريخنا الإنساني كله، منذ وطئت قدما آدم عليه السلام الأرض، إلى يومنا هذا.

لقد انتصرت غزة النصر الحقيقي، الذي لا ينظر إليه ولا يعرفه إلا أهل الإيمان، وأهل العقائد والقيم والمبادئ.

لقد انتصرت غزة النصر الحقيقي، الذي لا ينظر إليه ولا يعرفه إلا أهل الإيمان، وأهل العقائد والقيم والمبادئ

أما هؤلاء الذين لا يأبهون إلا بالنصر الظاهر، فيقولون ويقولون... فلهم نقول، وبحساباتكم الظاهرة:

  • هل أخذت إسرائيل أسراها عنوة؟!
  • هل سحقت إسرائيل المقاومة سحقًا؟!
  • هل احتلت إسرائيل غزة؟!
  • هل هجّرت إسرائيل أهل غزة إلى خارج غزة؟!

لم تنجح إسرائيل في تحقيق أيّ هدفٍ من أهداف حربها، فهي مهزومة في الحقيقة هزيمةً ظاهرة. ولكن هزيمتها الأكبر هي في نصر الله لأهل غزة وللمقاومة، ذلك النصر الحقيقي الذي نتحدث عنه.

ويا له من نصرٍ يراه أهل الإيمان والعقائد والمبادئ!

ويا له من نصرٍ جعله الله من قبلُ لرسله جميعًا، ويجعله لكل من ينصره إلى يوم الدنيا.

شاهد أيضاً

سيكولوجية الرويبضة

لا أدري متى بالضبط بدأ هذا القلق يتسلل إلى داخلي. ربما حين رأيت أحد الممثلين …