النصر في الحقيقة ثلاثٌ: نصر قبل المعركة، ونصر في أثنائها، ونصر بعدها. فالنصر الذي قبل المعركة هو النصر على الشيطان وعلى النفس بالاستقامة على أمر الله، والاستعداد للجهاد بما يستطيعه المجاهد، والإخلاص لله بالقصد والتوجه، ثم بوحدة الصف المجاهد حتى يكون كالجسد الواحد.
والنصر الذي في أثناء المعركة بالثبات والصبر وعدم الاستسلام ورفع الراية البيضاء مهما كانت قوة العدو وغلبته. وليس من الاستسلام ولا الهزيمة في شيء أن ينسحب الصف المجاهد من ساحة المعركة إن أيقن بالهزيمة والفناء، على أن يكون انسحابه انسحابًا تكتيكيًا، ليعود بعدها لجولة أخرى من جولات المعركة وقد طوّر في خططه وزاد في عُدّته واستنصر بغيره، وهي التي يقول الله فيها: (ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزا إلى فئة) سورة الأنفال آية 16.
والنصر الذي بعد المعركة بوحدة الصف المجاهد وعدم اختلافه وتشرذمه حتى يبقى كالجسد الواحد كما كان في أول المعركة، ليُعدّ لجولة أخرى صفًا مجاهدًا واحدًا، لم يزدد بالمعركة التي انتهت إلا قوة وشدة، وكما يقولون: (إن الضربة التي لا تكسر الظهر تقويه).
والنصر الذي بعد المعركة هو أكبر النصر، وإننا لنهزم أعداءنا بصبرنا وثباتنا مع وحدتنا واعتصامنا وطول نفسنا. فالنصر بالصبر مع دوام المقاومة والجهاد.
النصر في الحقيقة ثلاث: قبل المعركة وأثنائها وبعدها، وأعظمها ما يكون بعد أن تضع الحرب أوزارها.
وكل احتلال زال عن محتليه في تاريخنا الإنساني كله قديمه وحديثه إنما زال بمقاومة من احتلت ديارهم للغاصبين المحتلين، مع أن القوة تكون للمحتل الغاصب، ولو لم تكن له القوة لما أقدم على احتلال أرض غيره. والذين تُحتل ديارهم ينتصرون في النهاية بصبرهم مع دوام مقاومتهم بشرط وحدتهم واعتصامهم وعدم تعاديهم وتشرذمهم فيما بينهم.
بعد نهايات جولات المعارك يأتي التقييم لما حدث، وتأتي المناقشات في داخل الصف المجاهد، ففريق يقول: كان يجب ولم يكن يجب… وفريق آخر يقول: لا بد أن لا ننظر لما حدث، والذي يجب أن ننظر إليه هو ما يجب أن يحدث. هذا ما يحدث غالبًا بعد نهايات المعارك، أو بتعبير أدق: بعد نهايات جولات المعارك، لأن المعركة قائمة ودائمة، والتي تنتهي فيها جولات وراء جولات لتبدأ جولات بعد جولات… ولا يحدث ذلك في أثناء المعارك وجولاتها، ولا ينبغي أن يحدث، لأنه يثبط حينها حركة المقاومة ويضعف من عزمها وقوتها.
الشيطان لا يترك أولياء الله المجاهدين، فإن انتصروا عليه قبل المعركة باستقامتهم على أمر الله واستعدادهم للجهاد في سبيل الله مخلصين، فإنه يقوم في أرض المعركة وفي وقتها، فينفث فيهم الوهن والاختلاف. فإن انتصروا عليه بثباتهم وصبرهم ووحدتهم أثناء المعركة، قام لهم بعد المعركة ليبعث فيهم الاختلاف كأكبر ما يكون. فإن انتصروا نفث فيهم لاختلافهم على توزيع الغنائم والمناصب وعلى نسبة النصر وحسن الرأي، وإن انهزموا أو انسحبوا نفث فيهم لاختلافهم في نسبة الهزيمة وسوء الرأي.
أكبر انتصار هو ما يكون بعد المعارك وجولاتها؛ فإن بقي الصف المجاهد صفًا متماسكًا واحدًا، يُعدّ العدة للعودة إلى ميدان المعركة، فقد انتصر مهما كانت نتيجة المعركة في ظاهرها. وأكبر الهزيمة هو ما يكون بعد المعارك وجولاتها؛ فإن اختلف الصف المجاهد فيما بينه وتشرذم وظهرت خلافاته على العلن، فإن هذا ما يعيقه عن الإعداد للعودة، وهو ما يمثل أكبر الهزيمة، حتى وإن ظهر أنه قد انتصر في المعركة أو في جولتها.
أكبر الهزيمة ليست في خسارة جولة، بل في أن يتفرق الصف المجاهد بعد المعركة وتعلو الخلافات على راية الوحدة
في الجهاد الأفغاني أيام الاحتلال السوفييتي، انتصر المجاهدون أولًا انتصارًا كبيرًا وطردوا الاحتلال السوفييتي، ثم انهزموا الهزيمة الأكبر عندما جعلهم الشيطان يتعاركون فيما بينهم، وتنشب بينهم الحرب الأهلية التي استمرت لسنوات بين المجاهدين الذين كانوا إخوان الأمس ثم انقلبوا أعداء اليوم. ثم ابتلاهم الله لذلك بالاحتلال الأمريكي الغربي، وها هم قد انتصروا عليه انتصارًا ساحقًا، ومنذ أن انتصروا ونحن نراقبهم وندعو الله لهم حتى لا تكون هزيمة أكبر أخرى بانقسامهم وتعاديهم وتشرذمهم بعد الانتصار.
وفي الجهاد السوري ضد النظام الأسدي الغاشم، كانت الصورة أكثر قتامة، فقد تعادى المجاهدون وتشرذموا وقاتلوا بعضهم في أثناء المعركة ذاتها. ثم شاء الله لهم بالانتصار أخيرًا، وهو انتصار يثير كثيرًا من الريب والتساؤلات بسبب طريقته وسرعته وقبول العالم له، وخصوصًا العالم الغربي وأمريكا، بل وتقرب قادة هذا الانتصار من أمريكا والغرب بشكل يزيد من الريب والتساؤلات.
وفي المشهد الفلسطيني الغزّاوي، هناك اختلاف بين فصائل المقاومة، لكنه اختلاف حُسم من زمن بعيد؛ اختلاف بين فصيل كان مقاومًا من قبل ثم ارتمى في أحضان العدو الصهيوني المحتل رغبًا ورهبًا، وأصبح عميلًا له يعمل لمصلحته ويحارب معه بقية الفصائل المقاومة بالاعتقال من سلطته الحاكمة في الضفة (أجهزة السلطة)، وبالتجسس لصالح العدو الصهيوني المحتل في الضفة وفي غزة.
وبين فصائل ما زالت تقاوم، صابرة محتسبة، تقدم في كل يوم ثلة من قادتها شهداء أبرار على طريق المقاومة والجهاد، وتأتي على رأس هذه الفصائل المقاومة المجاهدة حركتا حماس والجهاد، اللتان صنعتا معًا في غزة في الحرب الأخيرة حرب طوفان الأقصى ملحمة بطولية قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني كله.
هاتان الحركتان مثلتا معًا الصورة الأمثل لتعاون حركات الجهاد فيما بينها وتعاليها على وسوسات الشياطين بالاختلاف والتعادي، وهما حركتان في الأصل قد خرجتا من رحم واحدة، رحم الحركة الإسلامية الكبرى، جماعة الإخوان المسلمين ورجالها الأوائل في أرض فلسطين.
ويبقى الخوف على هاتين الحركتين المجاهدتين المقاومتين، حركة حماس وحركة الجهاد، أن يوقع بينهما الموقِعون من شياطين الإنس والجن، فتنقلب وحدتهما إلى اختلاف وتعادٍ، ويتحول بأسهما على عدوهما إلى بأس بينهما، وهذا هو أكبر الهزيمة. بل ويبقى الخوف عليهما من ناحية وحدة كل حركة منهما وترابط صفها المجاهد المقاوم. وهذا ما يحاوله المحاولون من كل الأعداء.
لا مانع أبدًا من مراقبة القيادات ومحاسبتها، ولا مانع أبدًا من تغييرها واستبدالها بالطرق الشرعية من الانتخاب والاختيار، على أن نبقى نحفظ لهذه القيادات مكانتها وقدرها وسبقها في سبيل المقاومة والجهاد.
وقد بدأنا نسمع من هنا وهناك كلامًا كل همه ومراده أن ينال من قادة هذه الحركات؛ القادة الذين باعوا أنفسهم وأهليهم لله، وعاشوا مستهدفين مطاردين من بلد إلى بلد. هؤلاء القادة الذين نرى فيهم بقية البركة من جيل الآباء المؤسسين، الذين كانوا آباء مؤسسين للحركة وللعمل المجاهد، وآباء مؤسسين للإخلاص والغاية.
لا مانع أبدًا من مراقبة القيادات ومحاسبتها، ولا مانع أبدًا من تغييرها واستبدالها بالطرق الشرعية من الانتخاب والاختيار، على أن نبقى نحفظ لهذه القيادات مكانتها وقدرها وسبقها في سبيل المقاومة والجهاد. وقد ثبّت الرسول صلى الله عليه وسلم العنوان الذي لا بد أن لا ينساه اللاحق في العمل الإسلامي والجهاد والمقاومة مع السابقين الأولين المؤسسين، وذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم لصحابي لاحق اعتدى على صحابي سابق من المؤمنين الأولين: (إنك لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغت مُدّ أحدهم ولا نصيفه).
هكذا يجب أن يكون التعامل مع الآباء المؤسسين للحركة الإسلامية ولحركة الجهاد والمقاومة فيها… وهكذا يجب أن يكون تماسك الصف المجاهد ووحدته بعد نهاية المعركة أو بعد نهاية جولة منها؛ فإنه النصر الأكبر، فإن لم يكن فإنها الهزيمة الأكبر، والتي ليست بعدها هزيمة.
