لا للحرب: الآثار المادية والاجتماعية والمآسي الإنسانية
على مر تاريخ البشرية، تمثل الحرب قمة المآسي الإنسانية من فقدان للأنفس والممتلكات، والأذى الجسدي والنفسي، والهجرة والنزوح، والغربة عن الأوطان، واللجوء إلى القريب والغريب في الداخل والخارج، الذي قد لا يتسع صدره ولا صبره.
بعد كل هذه المعاناة الجسدية والمادية، إذا سلم الجسد لم تسلم الروح والنفس من آثار ما بعد الحرب، من ذكريات مؤلمة وقلق واضطراب قد يلازم المرء طوال حياته الباقية.
هاربين من جحيم المحرقة وأهوال الحرب، سالكين دروب السلامة المليئة بالمخاطر، لا شك أن النازحين والناجين قد واجهوا شتى أصناف الترويع، من مناظر مباشرة للقتل والتعذيب، والأذى المباشر وغير المباشر، ومعاناة شظف العيش بالحد الأدنى الذي يبقي رمق الحياة لكنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم رهق المسير والنزوح الذي تزيده الروايات والحكايات المتداولة عنتا تشيب من هوله الولدان.
وكما هو معروف وما فتئنا نعايشه يوما بعد يوم، كلما تطاول أمد أوار الحرب وشؤم تبعاتها، تزايدت دماء الأبرياء التي تراق دون ذنب جنوه يوما بعد يوم، إن ذلك ثمن عجزنا وقلة حيلتنا التي نستعصم بها أن يطالنا طوفان الفتنة، حتى وصل طعم علقمها المر روح الحلقوم، وامتد نصل فجيعتها حتى بلغ عظم الوطن المأزوم.
ولأن تجارب البشرية ما انفكت تكرر نفسها عبر دولاب دوامة التاريخ، نجد أن آثار الحرب قد صلت بنيرانها من سبقونا، فخبروا مخرجاتها منذ قرون. فبينما يدفع وقود الحمية والعصبية ليغذي شعلة الحرب المتقدة يوما إثر يوم فيصعب إخمادها، تتنزل كلمات الحكماء والعقلاء على وقر الآذان الصماء فلا تجد لها فقيها أو مجيبا.
فها هو حكيم شعراء العرب في العصر الجاهلي يناشد قومه بعد أن عركتهم الحرب الطاحنة لسنوات دون منتصر، فأفقرتهم وقضت على أكثرهم، يدعوهم إلى نشدان السلام ونبذ الحرب والخصام، لأن تطاول الحرب خراب ودمار متصل، يهلك الحرث والنسل، وينبت مختلف أشواك السوء والشؤم التي تدمي الجسد والروح فلا تنقطع:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم :: وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة :: وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها :: وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمانا أشأم كلهم :: كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها :: قرى بالعراق من قفيز ودرهم
رغم أن خسائر الحرب البشرية المتمثلة في أعداد القتلى والجرحى والمصابين والمفقودين، عادة ما يتم توثيقها عبر جهات شتى، تبدأ بالعشرات والمئات ثم الألوف، ويقف على آثارها المباشرة وغير المباشرة عموم الشعب، من فقد للأقارب من كل الدرجات، يعقبهم الأهل والعشيرة، ثم الأصدقاء والمعارف. ويتم تتبعها كلما تحرك لهب الحرب الحارقة صعودا ونزولا في أنحاء البلاد المختلفة التي تصلي نيرانها كل من تحلق حولها، جانيا كان أم مجنيا عليه.
وبينما تكون هناك ذريعة مباشرة بين الأطراف المشاركة والمتحاربة تبرر الاعتداء والقتل، يبقى قتل وانتهاك حرمات المدنيين العزل من قتل وتعذيب بدني أو نفسي أو تحرش جنسي، أفظع ويلات الحروب التي لا يمكن تقبلها ممن لديهم أدنى مقومات الإنسانية، وتجرمها كل القوانين والمعاهدات الدولية، بل تفتح أبواب الملاحقة المستقبلية؛ بسبب ارتكاب جرائم الحرب.
ورغم قسوتها وعدم تقبلها من قبل المؤمنين بالسلام واحترام حقوق الإنسان، تعلمنا التجربة أن مثل هذه الجرائم والفظائع قديمة قدم التاريخ، حيث يتحول المحارب المتجرد من الإنسانية إلى وحش بدائي تغذيه نعرات التعصب، لا سيما في غياب الوازع الديني والقانوني والأخلاقي، خصوصا وسط الأطراف المتحاربة التي تعتمد شريعة الغاب لا الانضباط النظامي.
يضاف إلى الخسائر البشرية الجسيمة التي تفقر الوطن، خسائر البنية التحتية من طرق وبنوك ومستشفيات ومدارس ومبانٍ قومية وجسور أنشئت عبر عقود من الأزمان، حيث تبلغ تكلفتها العالية ما لا يمكن تقديره بدقة إلا بعد رصد شامل ودقيق. ومما يؤسف له، كلما اتسعت رقعة الحرب في البلاد زاد الخراب واتسع الفتق على الراتق، خصوصا في وطن فقير متنامي الأطراف يحتاج لكل مورد للتنمية لا لمعول الهدم والتكسير.
المقلق في الأمر، أن الجميع يعلم من تجارب دول عديدة في مختلف أرجاء العالم التي اكتوت بنيران الحرب المدمرة عبر العهود، بما فيها العصر الحديث، أن خراب البنى التحتية يحتاج لعقود من الأزمان حتى تتوفر له الموارد الكافية، لأن الخراب سهل ويتم في لحظات، بينما البناء والتعمير يحتاج لسنوات، ودونه خرط قتاد الموارد بشقيها.
بعد الخسائر القومية، تأتي الخسائر المادية الفردية من أموال وممتلكات التي غالبا ما تفقد بالسلب والنهب الذي يعقب الحروب، حيث يمثل نهب وسلب الممتلكات سمة أساسية، خصوصا في الحروب الأهلية، لأنه يمثل دعما ماديا لاستمرار الحرب والاستفادة من عائدها.
لعل من أسوأ مخاطر تطاول أمد الحرب هو تغيير شكلها وهويتها مع مرور الزمن بسبب الغضب المتسارع والتعصب المتعاظم، فتتحول من نزاع مسلح محدود إلى حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر، تغرس وتدا عميقا في قلب الوطن النابض، وتمزق النسيج الاجتماعي إلى غير رجعة، مهددة سلامة البلاد ووحدتها على المدى الطويل.
وهذا التغيير في شكل وهوية أهوال الحرب معروف منذ القدم، فها هو الشاعر الضليل الذي خبر روح الحرب والنزال يقدم ملخص حكمته التاريخية:
الحرب أول ما تكون فتية :: تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها :: عادت عجوزا غير ذات خليل
رغم أن رؤوس كثيرين قد دفنت فعليا في الرمال لتفادي رؤية الواضح الجلي من تغير شكل وهوية الحرب في السودان، يتم ذلك عمدا هربا من مجابهة الواقع المرير، حتى يتسنى تسمية الأحداث المأساوية بمختلف المسميات التجميلية، فإن دراسة بؤس الواقع تشخص لنا ما يحدث بين ظهرانينا بالحرب الأهلية: "فهي صراع مسلح داخلي في حدود الدولة، بين مجموعات مسلحة منظمة على نطاق واسع للسيطرة على مقاليد الحكم، حيث تتميز هذه الحروب بالعنف الشديد والاستمرارية، ولها عواقب وخيمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي"
أليس هذا تعريفا دقيقا للأحداث المأساوية التي تعم البلاد؟ وضعت أقلام الحقيقة، وجفت صحف التبرير والتزوير.
في مسيرتنا السياسية الموحلة والعرجاء التي تنكبت جادة وسلامة الطريق، وصلنا مرحلة الحرب الأهلية مرغمين بسبب أخطاء بنيوية كان بالإمكان تجاوزها. لكن، يا لبؤسنا وقلة حيلتنا، لم يسخر الله لنا القيادة التاريخية الحكيمة والرشيدة حتى الآن، التي تعبر بنا لجج بحر الظلمات إلى شط الأمان، كبقية الأمم التي عبرت من قبلنا.
رغم أن الآثار المادية للحرب تبدو واضحة وجلية للعيان، متمثلة في الفقد المادي للأنفس والإصابات والمنشآت والممتلكات، فإن المضار الاجتماعية المصاحبة للحرب لا شك أعمق وأكثر تأثيرا، لا سيما على المدى الطويل، لكن لا يلتفت إليها زمن الحرب، خصوصا أنها لا تمثل أولوية لجميع الأطراف، فلا صوت يعلو فوق صوت قرقعة السلاح والمعركة.
يمثل النزوح الداخلي والخارجي بسبب الحرب سنام الآثار الاجتماعية السالبة للحرب، ففيه تغادر الأسر والجماعات والأفراد الحياة الآمنة المطمئنة التي ألفوها لسنوات، ويفقدون في لحظات السكن الآمن والمأوى الذي يعصمهم من أخطار الطوفان المميت، فيصبحون بين عشية وضحاها فريسة لكل أنواع الوحوش البشرية المتجردة من دثار الإنسانية، التي تستغل الضعيف المنهك الذي لا يستطيع دفع الضرر، جسديا كان أم نفسيا، فيتم استغلالهم ماديا ومعنويا، بل جسديا عبر الاستغلال الممنهج، والترويع والأذى، والتعذيب، والاغتصاب، والتحرش الجنسي.
وحتى إن أمن النازحون خطر الحرب في ملاذهم الوقتي، يمثل فقدان العائد المادي من مدخرات ومرتب وعائد منتظم من أوجه العمل المختلفة، التي توفر لهم سبل العيش الكريم، أكبر عائق لأي محاولة لتوفيق أوضاعهم في البيئة الجديدة، من سكن لائق وكريم، لا سيما إن كانت أسرة ممتدة، تليها الاحتياجات اليومية من مأكل ومشرب وملبس ودواء.
تعاني الأسر في سبيل ذلك ما تعاني، وتمر بتجارب موغلة في المعاناة والألم بسبب تقلب الأحوال، لا سيما عندما يخفق أرباب البيوت في توفير السكن الآمن والغذاء الدائم لأهلهم وفلذات أكبادهم، بعد أن كانوا قبلها في بسطة من العيش.
وفي كثير من الأحيان تخنق هذه المعاناة اليومية في جلد عظيم، تنوء بحمله الجبال الرواسي، وكثيرا ما يؤدي إلى مشاكل اجتماعية مركبة، سببها الأساسي الوضع الجديد من فقر وإفقار غير معترف به ولا يمكن مجابهته بشتى الطرق.
يعقب ذلك المرض الجسدي والنفسي، الذي لا شك يحاول الجميع ممن استطاعوا إيقاف عجلة تسارعه، لكن تغلبهم الحيلة لثقل الحمل العرم على الجسد الهرم، وسرعة الرياح الهوجاء تجاه الراية البيضاء.
لعل من المآسي الاجتماعية المتعاظمة التي أثرت بصورة بارزة في سودان ما بعد الحرب، نزوح المسنين وكبار السن عن موطنهم وبيئاتهم التي ألفوها من مسكن وجيرة وأهل وعشيرة وأصدقاء، بعد سنوات عديدة قضوها يبنون فيها الهيكل الاجتماعي الذي ينشدونه في خريف العمر. للأسف الشديد، أصبحوا فوجدوا الماء غورا في بئرهم المعطلة، وهيكلهم المشيد، وأحلامهم الكبيرة هشيما تذروه رياح الخوف، فأمسوا بين عشية وضحاها يلتحفون ثوب النزوح الذي يكشف كل عورات عدم الاستقرار والحاجة المتواصلة للدعم المادي والاجتماعي والنفسي.
رغم أن كثيرا من كبار السن قاوموا بكل ما أوتوا من صبر وقوة النزوح عن مساكنهم، فإن مخاطر الحرب اللعينة حاصرتهم من كل الاتجاهات، يضاف إلى ذلك خوف أسرهم الممتدة في الداخل والخارج عليهم، فأذعنوا وهم مترددون غير مقتنعين.
ورغم أن النزوح كان علاجا وقتيا للسلامة الجسدية، فإنه لم يكن شافيا من الناحية الاجتماعية والنفسية، لافتقادهم البيئة المحيطة بهم التي اعتادوا عليها، لا سيما وهم ما فتئوا يتساءلون: إلى متى يدوم أمد هذه الحرب؟ وعلامَ كل هذه الضجة الكبرى؟
يضاف إلى ذلك أن العناية بكبار السن تكون أحسن ما تكون في أوطانهم وسط الأسر الممتدة، لكن عوامل الحرب خلقت وضعا مأساويا لكثير من الأسر في رعاية أهاليهم من كبار السن في الداخل والخارج، رافقته مصاعب مادية واجتماعية ونفسية لتوفير الظروف الملائمة.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، يلازم كبر السن الوهن والمرض ثم الموت الذي لا مفر منه. وفي ظل ظروف الحرب المعقدة، تفرقت الأسر والمجتمعات شذر مذر، فانفصل الآباء والأمهات عن أبنائهم، والإخوة والأخوات عن بعضهم، وأصبح الأهل مشتتين بين الداخل والخارج في دول عدة، يصاحب التنقل بينها مصاعب عديدة؛ بسبب ظروف الحرب وإجراءات السفر والهجرة التي عانى منها السودانيون ما عانوا، لا سيما أن ظروف الحرب صنفت الشعب السوداني العظيم بأنه غير مرغوب فيه.
لا شك أن كثيرا عاشوا وتابعوا تجارب مريرة ينفطر لها الوجدان، من وهن وهزال ومرض عضال أو موت زؤام، انفصل فيه الأهل والأقرباء عمن يحبون؛ بسبب ظروف الحرب اللعينة. وهذه التجارب والذكريات المؤلمة لن يمحوها الزمن وإن تداولت الأيام.
بعد توفير أدنى مقومات المسكن والملبس والمأكل، تلتفت الأسر، لا سيما التي كانت في المدن، إلى أهمية التعليم، وهي تؤمن تماما بأنه مسلك النجاة المضمون لأبنائها نحو مستقبل كريم، مهتدين بقول الشاعر الطليعي الذي ساهم في نشر نهضة الشعر والثقافة في السودان:
العلم يا قوم ينبوع السعادة :: كم هدى وكم فك أغلالا وأطواقا
فعلموا النشء علما يستبين به :: سبل السعادة وقبل العلم أخلاقا
إن الشعوب بنور العلم مؤتلقا :: سارت وتحت لواء العلم خفاقا
يضاف إلى أهمية التعليم الآنية تزايد قيمته المستقبلية أضعافا مضاعفة، كأكبر مؤثر على الحراك الاجتماعي الأفقي والرأسي. وأكبر مثال لذلك توفير طوق النجاة لغرقى الحرب، خصوصا من كان لهم أبناء في مراحل جامعية متقدمة.
وتمثل معضلة توفير التعليم العام والعالي في أرض النزوح أكبر هاجس للأسر، فقد يكون التعليم النظامي ضربا من الترف في مخيمات النازحين، وإن توفر المكان فقد لا يتوفر المعلم، الذي تأثر هو نفسه وأسرته بالحرب.
وانهارت المنظومة التعليمية الهرمية، لأنها لا تحتاج للريادة والقيادة فحسب، بل إلى التمويل الدائم الذي ينقطع زمان الحرب، فلا يصبح من الأولويات، حتى إن بح صوت القائمين عليه. وحتى إن توفر التعليم وتكاليفه الباهظة التي تثقل كاهل الأسر، اكتوى الآباء والأمهات النازحون في دول الجوار بنظم التعليم المختلفة واستغلال المدارس لهم بشتى صور الاستغلال، وهم يعلمون أنهم بلا سند أو عضد.
ويعد الفقد والهدر التعليمي، الذي يتعاظم ككرة الثلج، من أكبر الخسارات المعرفية التي تمور تحت سطح اللامبالاة. فعلى سبيل المثال، يمكن إصلاح طريق أو مبنى تالف في زمن وجيز، لكن من الصعب إصلاح جيل تربى دون تعليم ودون مصادر معروفة للدخل زمن الحرب.
إن الحرب في السودان في عامها الثالث، وهناك أعداد مقدرة ممن هم في سن التعليم خارج الوعاء التعليمي، أو يتلقون تعليما غير كافٍ، خصوصا في ظل شح الموارد المادية والبشرية، وغياب الرقابة القومية والمحلية التي تشرف على العملية التعليمية. يرافق ذلك سيولة ملحوظة في مقاييس الجودة تقديرا للظروف التي يمر بها الطلاب، والتي لا شك ستكون آثارها كارثية خلال سنوات.
ويقابل ذلك ضعف واضح وبين في التعليم العالي، خصوصا أن الحرب كشفت عوار تمركز الخدمات، بما فيها جل التعليم العالي من جامعات ومعاهد عليا، وخاصة التقني منها، في وسط البلاد.
ومع ضرب البنى التحتية، بما فيها الكهرباء وشبكات الإنترنت، يضاف إلى ذلك الفقر المدقع الذي عم البلاد، أصبح التعليم عن بعد ضربا من المستحيل، رغم الجهود المشهودة للقائمين عليه حتى دون مقابل.
رغم مأساوية ما يحدث في السودان من حرب ودمار على كل الأصعدة، فإنه يحتاج إلى وقفة طويلة متأنية مع النفس، لا سيما ممن يملكون إرادة الحل والعقد، لطرح أسئلة صعبة تكمن في إجاباتها المفصلية مفاتيح الحل المستقبلي:
- هل ستصل الحرب المدمرة إلى مبتغاها باستسلام الطرف الآخر؟
- أنسعى لبناء وطن موحد أم لتقسيم البلاد على أساس جهوي وعرقي وجغرافي؟
- هل نستطيع تجاوز أخطاء الماضي المتراكمة لبناء وطن معافى تسود فيه قيم الحرية والسلام والاستقرار؟
- هل نملك مقومات الموارد البشرية والطبيعية لبناء وطن يقوم على أسس المواطنة والمشاركة وسيادة القانون؟
إن مجابهة هذه الأسئلة المفصلية أمر مهم، خصوصا للنخب التي تضرم أوار الحرب من الطرفين، لأن ما يحدث نتاج صراع مسلح انقلب إلى صراع جهوي وجغرافي، جذوره غرست منذ أمد بعيد، وتم تجاوزها عند الاستقلال، وفشلت النخب عبر الحقب في إدارة إجماع وطني حولها، حتى تحولت إلى إشكالات بنيوية تعيق بناء الدولة الحديثة، رغم التحذير من مغبتها منذ وقت طويل.
وقبل ما يقارب المئة عام، حذر المثقف الطليعي من إشكالية التحزب والاصطفاف الجهوي، وما درى أن الخطوب ما زالت تحدق بنا وتتضاعف بسبب عدم اتخاذ منهجه سبيلا للخلاص:
فلو درى القوم في السودان أين هم :: من الشعوب قضوا حزنا وإشفاقا
جهل وفقر وأحزاب تعيث به :: هدت قوى الصبر إرعادا وإبراقا
إن التحزب سم فاجعلوا أبدا :: يا قوم منكم لهذا السم ترياقا
لا شك أن العاطفة، وهي سمة سلبية في الشخصية السودانية، ستغلب على العقل عند تقليب هذه الأسئلة المصيرية التي تقرر مستقبل البلاد، لكن مجابهتها لا بد منها من عموم الشعب آجلا أم عاجلا، فتأخيرها يعمق معاناة الملايين ممن يتقلبون على جمر ورصيف الانتظار.
ولأمثال هؤلاء الذين يغلبون العاطفة والهوى على العقل، ننصحهم بحكمة الفقيه: "كلما اختلف علي أمر، نظرت أيهما أقرب إلى هواي فلم أفعله، فإن معظم الضلال في اتباع الهوى". لذا ننصح من يدقون طبول الحرب ليل نهار، أن اتباع العاطفة إرضاء للنفس والهوى، وهو مفض إلى التهلكة بالشعب والوطن.
ولا شك لدينا أن الشعب الذي اكتوى بنيران الحرب اللعينة، فمزقته شر تمزيق وأهلكته حتى أشرف على الفناء، يفضل السلام والاستقرار على استمرار الحرب الخبيثة التي أهلكت الزرع والضرع. ويبقى التحدي: من يملك الحكمة والإرادة لتحقيق تطلعات الشعب؟
ويعلل المناصرون لاستمرار الحرب أن الأحداث المأساوية المصاحبة لها لا يمكن أن تجب ما قبلها، وأن سودان ما قبل الحرب ليس كسابقه، وإن لم يتحقق الانتصار العسكري فلتكن القطيعة والانفصال. لهؤلاء نرد بأن كثيرا من الأمم قبلنا اختبرت تجارب أشد وأفظع مما نمر به اليوم، لكن العقل والحكمة قاداها إلى بر النجاة والسلامة، بينما اختارت شعوب أخرى طريق الحرب والدمار، فأقعدتها حتى أفضت بها إلى الفناء.
فلنعمل جميعا نحو ما يجمعنا لا ما يفرقنا، فالعمر قصير والحياة قاسية لنا ولمن حولنا، خصوصا المكتوين بنيران الحرب، مقتدين بكلمات الموسيقار الصادقة التي أنشدها منذ ما يقارب الأربعين عاما ولا نزال بحاجة إلى تطبيقها على أرض الواقع الكئيب:
بلدنا نعلي شانا يا ناس .. سودانا نادانا
في الفجرية زارع بيزرع في المزارع
أريد زراع بلدنا ونور الشمس ساطع
في الفجرية صانع بيصنع في المصانع
أريد عمال بلدنا وصوت المكنة طالع
يا الحارسين حمانا بعزة وأمانة
أريتو يسيل عرقنا بدل ما تسيل دمانا
نحلك يا قضية بدون صوت بندقية
أخوي خليك معاي أخوي ما تكون علي
ويبقى فينا اليقين أن نستعصم بجبل العقل والحكمة فنأوي إليه، حتى لا يغرقنا طوفان الفتنة، ونتشبث بطيف الأمل حتى نتخطى جمر الصعاب إلى فضاء الوطنية الواسع الذي يسع الجميع، وإلى رحاب الاستقرار والسلام المفضي إلى التنمية المستدامة. فلولا العقل والأمل لصعبت الحياة.
أصالة الرأي صانتني عن الخطل :: وزينة الفضل زانتني لدى العطل
أعلل النفس بالآمال أرقبها :: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد
معلومات الموضوع
الوسوم
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة
