أمومة غزة تحت التهديد: حين تقتل المرأة ببطء

الرئيسية » حصاد الفكر » أمومة غزة تحت التهديد: حين تقتل المرأة ببطء
أمومة غزة تحت التهديد.. حين تقتل المرأة ببطء - ليزا حسونة – مدونات الجزيرة

في غزة، لا تقتل النساء فقط بالقصف، بل يقتلن ببطء.. يوما بعد يوم.

كطبيبة أسنان، اعتدت أن أرى الألم في الوجوه، لكن الحرب جعلتني أرى ما هو أعمق من الوجع الجسدي: انكسار المرأة من الداخل، وتحول الأم من إنسانة كاملة إلى وظيفة واحدة فقط، هي الحماية بأي ثمن.

الأم في غزة لم تعد زوجة كما كانت، ولا عاملة، ولا موظفة، ولا صديقة، ولا امرأة لها طموح وأحلام. انتزع منها كل ذلك دفعة واحدة، واختصر وجودها في سؤال واحد يطاردها ليلا ونهارا: كيف أبقي أطفالي أحياء؟

انتقلت المرأة من حياة طبيعية، من بيت وأجهزة كهربائية وغسالة ومطبخ وملابس أنيقة، إلى حياة تحسَب فيها التفاصيل الصغيرة: ماء قليل، وطعام شحيح، ووقود يكفي بالكاد لطهي وجبة واحدة.

رأيت أمهات يغسلن الملابس الشتوية الثقيلة بأيديهن، ملابس مشبعة بالدخان والرماد، في برد قاسٍ، دون كهرباء ودون ماء كافٍ ودون شكوى. ليس لأنهن قويات كما يقال، بل لأن البديل ببساطة غير موجود.

المرأة التي كانت تختار ملابسها بعناية، وجدت نفسها ترتدي ملابس الصلاة طوال الوقت، لا للتدين، بل لتستر نفسها، بعد أن استبدلت أناقتها بثياب مشبعة بالحطب والدخان والسخام، لأنها تقف ساعات طويلة قرب النار لتؤمن لقمة لأطفالها.

حتى أنوثتها لم تعد أولوية. لم تعد قادرة على التفكير في شعرها أو بشرتها أو مكياجها أو صورتها أمام المرآة، ليس لأنها لا تريد، بل لأنها فقدت الإحساس بأنها تملك حق ذلك أصلا.

في الثلاثين من عمرها، بدأ الشيب يزحف إلى شعرها، غارت عيناها، اسود وجهها من التعب، وظهرت التجاعيد مبكرا. لم يعد هناك وقت ولا مكان لقص الشعر أو صبغه، ولا أحد يسألها: كيف حالك أنت؟ كثيرات أصبحن في عمر الستين داخل جسد في الثلاثين.

حتى حياتها الخاصة مع زوجها لم تسلم من هذا الانهيار. لا غرفة، ولا خصوصية، ولا مساحة إنسانية. خيمة صغيرة مهترئة تجمعها مع زوجها وأطفالها، وأحيانا مع أقارب آخرين. الحياة الزوجية انعدمت، لا لغياب الحب، بل لغياب المكان والأمان، والقدرة على أن تكون امرأة لا أما فقط.

كطبيبة، استقبلت نساء حوامل لا يشتكين من ألم جسدي فقط، بل من انهيار كامل. إحداهن أيقظت أطفالها أثناء القصف، لا لتخفيهم، بل لتودعهم إن حدث الأسوأ. أخرى أجلت ولادتها لأن الطريق إلى المستشفى كان أخطر من الولادة نفسها. وأم ثالثة كتبت أسماء أطفالها على ورقة وضعتها في جيوب ملابسهم، خوفا من أن يفصلوا عنها أثناء النزوح.

وفي إحدى الليالي، وصلتني امرأة حامل في شهورها الأخيرة أثناء قصف عنيف. كانت ترتجف، الطريق إلى المستشفى مقطوع، والخوف يسبق الألم. جلست معها، هدأت تنفسها، وضعتها في وضعية آمنة، وبقيت بجانبها ساعات، لا كطبيبة أسنان فقط، بل كإنسانة تحاول أن تمنع خسارة جديدة. نجت هي وطفلها، لكنها خرجت أكبر بعشر سنوات.

هذه الحرب لا تدمر البيوت فقط، ولا تقتل الأطفال والشباب فقط، بل تقتل الإحساس الداخلي. تقتل حبنا لأنفسنا، وأحلامنا، وطموحاتنا، وشعورنا بأن لنا مستقبلا.

بعض الناس يتجاوزون، وبعضهم يتوقف الزمن عند الحرب، ويبقون أسرى ذاكرتها، وهذا هو الخسار الأكبر.

المرأة في غزة اليوم ليست مجرد ضحية، بل شاهدة حية على إبادة بطيئة، إبادة لا تظهر في الأرقام ولا في صور الدمار، بل في الوجوه التي شاخت قبل أوانها، وفي القلوب التي تحتاج وقتا طويلا لترميم ما كسرته هذه الحرب اللعينة.

شاهد أيضاً

رغم عراقيل الاحتلال وانتهاكاته.. غزة تبدأ رحلتها نحو التعافي والبناء!

مسألة تعافي غزة من معظم أزماتها آتية لا محالة، وكل محاولات الاحتلال منع هذا التعافي …