عندما تشتد المحن وتقوى الابتلاءات ويكون الباطل منتفشاً وله دولة، وفي الجانب الآخر تتناثر أشلاء أهل الحق وتتداعى عليهم الأمم ويقل ناصرهم، فإن الهواجس تتبادر إلى أذهان أهل الحق المُبتلين؛ وأول هذه الهواجس...
- ألسنا على الحق وأعداؤنا على الباطل؟
- ألسنا نبتهل إلى الله تعالى في كل وقت وحين أن يصرف عنا ما نحن فيه؟
- أليس الله تعالى قد قال: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" (الحج: 38).
- إذاً، أين الله مما نحن فيه من بلاء؟ وحتى متى سنظل فيما نحن فيه من كرب؟
وهنا نذكِّر ونقول...
قال تعالى: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}} (العنكبوت: 1-3).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يودُّ أَهْلُ العافِيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أَهْلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جلودَهُم كانَت قُرِضَت في الدُّنيا بالمقاريضِ" (سنن الترمذي).
توطئة
دعنا نتفق أن الدنيا دار ممر وليست دار مستقر!!
ونتفق أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة!!
وأن أكثر الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم!!
وأن المؤمن لا يُمكَّن له حتى يُبتلى!!
وأن المؤمن يُبتلى على قدر دينه!!
وأن الله تعالى يبتلينا ليُهذبنا لا ليُعذبنا!!
وأن المريض يرفع الله تعالى له الدرجات ويكفِّر له السيئات، والفقير يخفف الله حسابه ويحفظه من تغير القلوب عندما تمتلئ الجيوب، والشهيد يُشفع في سبعين من أهله، والأسير يزيد الله في أجره وأجر أهله، ويصنعهم جميعاً لنفسه وعلى عينه.
بين يدي الموضوع
• يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - واصفاً هذا الطريق في (كتاب الفوائد): "يا مُخنَّثَ العزم أين أنت، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالمِنشار زكريا، وذُبح السيد الحَصُور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقداد بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ".
هل أتاك نبأ مقتل نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام، الذي قُطِعت رأسه وقدمت مهراً لباغية!
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية تفصيل هذا الخبر، فذكر أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى، فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله" اهـ.
قال الثوري عن الأعمش عن شمر بن عطية قال: "قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً، منهم يحيى بن زكريا" اهـ.
لا عجب في كل ما سبق وقد ورد في القرآن ذكر قتل بني إسرائيل للأنبياء بغير حق.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 112).
وهل أتاك نبأ أصحاب الأخدود، وماشطة ابنة فرعون، ونبأ ما حدث لأنبياء الله: إبراهيم، وموسى، وأيوب، ويوسف، وعيسى، ومحمد (عليهم السلام)!! ومن سار على دربهم!!
وهل بلغك أن الحسن البصري ظل مطارداً من الحجاج لا يستطيع حتى الخروج لدفن ابنته!!
وهل علمت أن سعيد بن جبير ظل مُختبئاً هرباً من الحجاج لسبع سنين، لا يستطيع الذهاب إلى الحرم إلا متخفياً.
وهل أخبرك أحد أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينتقل من سجن إلى سجن، ومن جلاد إلى آخر، وأخبرك أن ابن تيمية أعلم أهل الأرض في زمانه وهو يقاسي ظلام سجن قلعة دمشق، وأن ابن الجوزي ومالكاً وأبا حنيفة وغيرهم من المصلحين قد خُلعت أكتافهم من الأصفاد وهزلت أبدانهم وزادت أمراضهم، هم وآلاف المصلحين على مر الزمان!!
إنّ الداعية يأخذه الله إلى بعض مصانع إصلاحه وتربيته ولو كان نبياً... فيُهذب له نفسه، ويطهر له قلبه، ويفيض عليه من علمه، حتى يخرج الواحد منهم أنقى قلباً، وأصلب عوداً، وأقوى شكيمة، وأشد صبراً!!
إن كل ذلك لم يحدث لهوان أصحابه على الله تعالى، أو لأن وجودهم يتساوى مع عدمه!! لكنها رسالة الله على مر العصور أن قدر المصلح ومنزلته هناك لا هنا، وأن الداعية يأخذه الله إلى بعض مصانع إصلاحه وتربيته ولو كان نبياً... فيُهذب له نفسه، ويطهر له قلبه، ويفيض عليه من علمه، حتى يخرج الواحد منهم أنقى قلباً، وأصلب عوداً، وأقوى شكيمة، وأشد صبراً!! وهذه هي "سنة المدافعة" التي أخبرنا الله تعالى بها في كتابه فقال: "... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: من الآية 40).
أين الله مما يحدث في غزة
دعونا نتفق أن العالم قد حبس أنفاسه وهو يرى من بين أهل غزة من يُسقط طائرة تجسس بحجر!!
ونقر أن العالم قد وقف على أطراف أصابعه ليرى هذا المجاهد الغزاوي وهو يتحدى أحدث تكنولوجيا العصر الحديث ويذهب إلى الميركافا حافياً ليضع بداخلها لغماً يفتك بكل من فيها ويفجرها على مرأى ومسمع من العالم!!
ونشهد أننا رأينا شعوب العالم سُكارى وما هم بسُكارى ولكن هول مشاهدتهم للثبات الأسطوري لأطفال ونساء غزة لم يقل عن ثبات رجالها!!
ونعترف أن كل ما سبق قد أذهل شرفاء العالم بمختلف دياناتهم وتوجهاتهم، فرأينا منهم من يتحمل البطش والإيذاء والتنكيل من أجل مناصرة شعب غزة!!
أليست كل هذه المشاهد تجعلنا نقر بأن الله تعالى هو الذي رمى، وهو الذي ربط على القلوب، وهو الذي جنَّد جنوداً لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى!!
نعم، إن ما يلاقيه إخواننا في غزة تشيب له الولدان، وتطيش له العقول، وتخر له الجبال هدًّا، ومن له قلب يموت من هوله كمداً!!
نعم، إننا نشهد أن كل ذلك لم يحرك قلوباً غلفاً، وآذاناً صُمّاً، وأعيناً عُميًا! كأن ما يجري في عروقهم بولُ خنزير أو دماءُ حيضِ باغية!!
إن كل ذلك هو الذي يجعل البعض ينتظرون خارقة تنتصر لأهل غزة، أو صاعقة من السماء تدمر عدوهم تدميراً!! ولكن من يثوب إلى رشده يدرك أن هذا فهماً قاصراً، وأن الله تعالى ما خلقنا لنكون متواكلين ولا لنكون جيلاً من التنابلة!!
قد يقول قائل:
ألم يرسل الله تعالى الطير الأبابيل الذي أباد أبرهة وجيشه وأنقذ بيت الله الحرام من أن يصيبه جيش أبرهة بسوء؟
ويقول آخر:
ألم يمسخ الله تعالى (إساف ونائلة) حجرين لأنهما فعلا الفاحشة عند الكعبة؟
ولهؤلاء أقول:
هل تعلمون أن القرامطة قد استولوا على بعض مناطق الجزيرة العربية والشام، وارتكبوا مجازر كبرى، خاصةً في طريق حُجّاج بيت الله الحرام، للحد الذي جعل أهل الشام والعراق يلغون فريضة الحج!
هل تعلمون أنه في عام (317هـ - 930م) قد أغار القرامطة على المسجد الحرام، وقتلوا حوالي 30 ألفاً من الحُجّاج ومن أهل مكة، وسرقوا الحجر الأسود لمدة 22 سنة، فلم يتمكن المسلمون من استرداده إلا عام 339هـ.
هل تعلم أنه أثناء المجزرة التي ارتكبها القرامطة داخل المسجد الحرام كانوا يصيحون: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وكان زعيمهم (أبو طاهر القرمطي) ملك البحرين في ذلك الوقت يقول: (أنا بالله، وبالله أنا... يخلق الخلق، وأفنيهم أنا).
وبالرغم من كل ما سبق لم يتدخل الله تعالى بمعجزة الطير الأبابيل لتهلكهم مثلما حدث مع جيش أبرهة، ولم يمسخهم الله تعالى حجارة مثلما حدث لـ(إساف ونائلة).
والسبب فيما سبق هو أنه عندما أقدم أبرهة على هدم الكعبة لم يكن هناك مسلم يدافع عن الكعبة، فقال عبد المطلب قولته الشهيرة: (للبيت رب يحميه)، فتولى الله تعالى الدفاع عن بيته بنفسه!!
وكذلك عندما فعل (إساف ونائلة) ما فعلا عند الكعبة لم يكن هناك مسلم يغار على حرمة بيت الله، لذا تولى الله تعالى الأمر بنفسه!!
أما في عهد القرامطة فكان الإسلام قد انتشر وأعداد المسلمين أصبحت لا حصر لها، لذا كان من الواجب على المسلمين أن يهبوا لنصرة بيت الله الحرام. والحال كذلك مع ما يحدث لشعب غزة الآن!!
إن قدرة الله تعالى لو كانت تدخلت لإهلاك القرامطة، ولو تدخلت الآن لإهلاك الصهاينة، لأصبحت نهاية المشهد في كل مرة معروفة، ولأصبح هناك تواكل من المسلمين فيكونوا تنابلة لا حمية عندهم لنصرة الشرع، ولا غيرة عندهم إذا انتُهك العرض!! وحاشاه سبحانه وتعالى أن يخلق العباد لمجرد أن يكونوا تنابلة ودراويش!
إن قدرة الله تعالى لو كانت تدخلت لإهلاك القرامطة، ولو تدخلت الآن لإهلاك الصهاينة، لأصبحت نهاية المشهد في كل مرة معروفة، ولأصبح هناك تواكل من المسلمين فيكونوا تنابلة لا حمية عندهم لنصرة الشرع، ولا غيرة عندهم إذا انتُهك العرض!! وحاشاه سبحانه وتعالى أن يخلق العباد لمجرد أن يكونوا تنابلة ودراويش!
أخيراً أقول:
إن الدنيا دار ابتلاء، ولو تدخل الله تعالى لرفع البلاء دون جهد من البشر، فما فائدته من البداية؟ وكيف نعرف المؤمن من غيره؟ وكيف يتربى البشر؟ وكيف ينال الصابرون أجرهم ويبلغوا منزلتهم يوم القيامة؟
إن الممتحن لو تدخل ليجيب على كل سؤال صعب يواجه الممتحنين فلن يستعد للامتحان أحد، وسيتساوى في النهاية من هزل مع من بذل... وهذه ليست مشيئة الله تعالى في خلقه!!!
إن مقولة (للبيت رب يحميه) قد انتهى زمانها، وإن صح للمسلم كلما وقع به بلاء أن يجلس متواكلاً مُعتبراً إسلامه صكاً ورخصة لكي يتدخل الله تعالى ويصرف عنه ما يجد من بلاء، فإذا مرض فسيجلس ويقول: (للبدن رب يشفيه)، وإذا كان طالباً فلن يجدّ ولن يجتهد وسيقول: (للطالب رب يوفقه)!!
وأقول:
عسانا أن نكون قد أدركنا حكمة الله تعالى لما يحدث لشعب غزة الآن؟ فهنيئاً لشعب غزة ولمن أمدهم ولو بجهد المُقل، وهنيئاً لمن لم يجد حيلة لنصرتهم ففاضت عينيه من الدمع حزناً على حالهم، وهنيئاً لمن عدم وسيلة نصرتهم فأخذ يتبع كل وسيلة من شأنها أن تضعف عدوهم، وهنيئاً لمن انطلق لسانه بالدعاء لهم وبالدعاء على كل من عاداهم وكل من خذلهم.
