القدس في فكر حماس: قراءة في مركز الوعي ومعادلات القوة

الرئيسية » بصائر من واقعنا » القدس في فكر حماس: قراءة في مركز الوعي ومعادلات القوة
حماس والقدس

يصعب الولوج إلى تجربة حماس من دون المرور بالقدس؛ فالعلاقة بينهما ليست علاقة شعار بحركة، ولا مدينة بفصيل، بل علاقة مركز ودوائر. القدس هي المركز الذي تتجمع حوله دوائر الهوية والدين والسياسة والشرعية والمقاومة. لهذا لا يمكن قراءة حماس بوصفها تنظيمًا مسلحًا أو حزبًا سياسيًا فقط؛ إذ إن الحركة نشأت أصلًا في لحظة كان فيها انكسار المعنى موازياً لانكسار الجغرافيا، وكانت القدس تمثّل “البقية الباقية” من الرابط العميق بين الشعب وتاريخه الممتدّ من الإسراء والمعراج إلى الفتح العمري والتحرير الصلاحي.

في الوعي الحمساوي، لم تكن القدس مجرد رمز مقدّس، بل كانت دليلًا على صلاحية الفكرة، ومؤشرًا على قابليتها للصمود، لأن من يفقد القدس يفقد روايته، ومن يفقد روايته يفقد قدرته على الاستمرار. ولعلّ هذا الوعي التأسيسي هو ما جعل الحركة تنظر إلى المدينة باعتبارها معيارًا للشرعية الوطنية، وليس مجرد عنوان للوجدان الديني.

القدس وامتحان الشرعية الوطنية

بعد احتلال 1967، عمل الاحتلال على إعادة تشكيل المدينة ضمن منظومة الضمّ الكامل: تغييرات ديمغرافية واسعة، هدم بيوت، طرد سكان، إحلال استيطاني سريع، فرض المناهج الإسرائيلية على المدارس، وتحويل القدس القديمة إلى منطقة مراقبة كثيفة. غير أن كل هذه الأدوات لم تُنتج مواطنة إسرائيلية لدى المقدسيين. الأرقام هنا ليست مجرد أرقام؛ إنها شاهد على فشل المشروع الصهيوني نفسه:

أقل من 2% من المقدسيين شاركوا في الانتخابات الإسرائيلية منذ 1967 رغم الضغوط؛ وأكثر من 60% من الشباب المقدسيين شاركوا في أشكال مقاومة متفاوتة خلال السنوات العشر الأخيرة. هذه المؤشرات تكشف أن القدس –رغم السيطرة العسكرية– لم تدخل الوعي الإسرائيلي، بل ظلت خارجه، وأن المدينة استعصت على التحويل إلى “عاصمة” بالمعنى العميق للكلمة.

هنا وجدت حماس موقعها الطبيعي. فالحركة، منذ انطلاقتها، لم تبحث عن “شرعية” تستمدها من المؤسسات الرسمية، بل من المركز الذي تتولّد منه شرعية أي مقاومة: القدس. وهكذا أصبح موقفها من المدينة ليس جزءًا من خطاب، بل جزءًا من تعريف الهوية. فالقدس ليست عند الحركة بندًا في قضية سياسية، بل هي القضية نفسها.

القدس في فكر حماس ليست جزءًا من خطاب، بل جزءًا من تعريف الهوية. فالقدس ليست عند الحركة بندًا في قضية سياسية، بل هي القضية نفسها

العمليات في القدس: تفكيك وهم السيادة الإسرائيلية

العمليات التي نُفّذت في القدس خلال التسعينيات وبداية الألفية وحتى اليوم لم تكن مجرد ردود فعل، بل كانت اختبارًا مباشرًا للسيادة الإسرائيلية على المدينة. فقد كان الاحتلال يعتبر القدس “المدينة الأكثر أمنًا”، ويقدّمها للعالم نموذجًا لنجاح مشروعه في الضم الكامل. ولكن العمليات النوعية، من تفجيرات استهدفت مواقع حساسة إلى عمليات طعن ودهس وإطلاق نار، كشفت أن السيطرة على المدينة سيطرة سطحية!

فالسيادة كانت من الأعلى، لكنّ الوعي كان من الأسفل. وهذا الوعي هو ما جعل المدينة تنتج موجات مقاومة لا تقل تأثيرًا عن موجات غزة أو جنين، بل تزيد عليها في القيمة الرمزية، لأن القدس هي “مسرح الشرعية” في الصراع كله.

إن مقاومًا يحمل سكينًا في شارع صلاح الدين كان يضرب صورة الاحتلال أكثر مما يفعل صاروخ بعيد المدى، لأن الفعل داخل القدس يعرّي المشروع الصهيوني في نقطة ضعف صلبة: نزعته إلى ادعاء امتلاك المدينة روحيًا وسياسيًا.

إن مقاومًا يحمل سكينًا في شارع صلاح الدين كان يضرب صورة الاحتلال أكثر مما يفعل صاروخ بعيد المدى، لأن الفعل داخل القدس يعرّي المشروع الصهيوني في نقطة ضعف صلبة: نزعته إلى ادعاء امتلاك المدينة روحيًا وسياسيًا

انتفاضة الأقصى: حين تصبح المدينة مولّدًا للتاريخ

انتفاضة الأقصى لم تكن احتكاكًا عابرًا. كانت لحظة أعلن فيها الفلسطينيون أن “السيادة على القدس” لا يمكن أن تُنتزع بالقوة لأن المدينة تعبّر عن عمق لا يمكن مصادرته. اقتحام شارون لحرم المسجد الأقصى أطلق موجة مقاومة تجاوزت ردود الفعل إلى إعادة كتابة السردية الوطنية.

فحماس قرأت الحدث باعتباره إعلانًا صريحًا لدخول الصراع في مرحلة “العدوان المقدّس”، وهي المرحلة التي لا يعود فيها النزاع على الأرض فقط، بل على الرموز التي تمنح الأرض معناها. ولذلك جاءت العمليات التي قادتها الحركة في تلك الفترة كاستجابة لحقيقة تاريخية: الصراع على القدس ليس صراعًا على جدار، بل صراع على المستقبل.

سيف القدس (2021): ترقية القدس من رمز إلى قرار عسكري

معركة “سيف القدس” كانت لحظة نادرة في تاريخ المقاومة، لحظة انتقلت فيها القدس من موقع “القضية التي تُخطب لها الخطب” إلى موقع القضية التي تُطلق من أجلها الحروب.

حين قصفت غزة تل أبيب دفاعًا عن القدس، كانت تُعلن قاعدة جديدة: المساس بالمدينة لم يعد شأنًا محليًا، بل شأنًا إستراتيجيًا تتدخل فيه المقاومة بقوتها الكاملة.

هذه اللحظة غيّرت ثلاث قواعد مركزية:

  • القدس أصبحت جزءًا من العقيدة القتالية للمقاومة، لا من خطابها فقط؛
  • معادلة الردع انتقلت من جغرافيا غزة إلى جغرافيا القدس؛
  • والاحتلال أصبح مضطرًا لاحتساب رد فعل المقاومة قبل أن يقرر خطواته في المدينة.

لقد انتقلت القدس بذلك من رمز إلى محرّك، ومن قضية إلى مركز القرار العسكري.

طوفان الأقصى (2023): اكتمال التحول الاستراتيجي

حين حملت العملية في 7 أكتوبر اسم “طوفان الأقصى”، كانت الحركة تُعلن أن القدس ليست مجرد خلفية، بل هي مركز الجاذبية الذي دارت حوله سنوات التوتر، والاقتحامات، ومحاولات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد.

وكان الطوفان إعلانًا أن الصراع دخل منطقة إعادة توزيع القوة:

القدس لم تعد ساحة احتكاك، بل ساحة تحدد اتجاه المعركة القادمة، وأن الاحتلال إذا أراد فرض سيادته الدينية على المدينة، فسيواجه ردًا غير قابل للحصر في غزة وحدها.

حين حملت العملية في 7 أكتوبر اسم “طوفان الأقصى”، كانت الحركة تُعلن أن القدس ليست مجرد خلفية، بل هي مركز الجاذبية الذي دارت حوله سنوات التوتر، والاقتحامات، ومحاولات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد

القدس كحقل قوة: البعد غير المرئي للصراع

في رؤية الحركة، لا تُفهم القدس فقط بقدرها الديني أو السياسي، بل تُفهم بما هي خزان للهوية.

المدينة تربط الفلسطيني بالمقدس، وتربطه بالتاريخ، وتمنح فعل المقاومة معنى يتجاوز اللحظة. وبهذا تصبح القدس “قوة غير مادية” تحرك الواقع المادي، وتعيد تشكيل الإرادة حين تنكسر الأدوات.

لهذا السبب، فشل الاحتلال في هندسة هوية جديدة للمدينة، لأن قوة القدس ليست في مبانيها، بل في الوعي الذي تُنتجه، والوعي لا يمكن هندسته بالقوة.

ختاما.. في ذكرى انطلاقتها الثامنة والثلاثين، لا تبدو حماس حركة تتحدث عن القدس من الخارج، بل تبدو كأنها تشكلت من رحم المدينة ذاتها.

فالقدس ليست تفصيلة في مشروع الحركة، بل البنية التفسيرية التي يُقرأ فيها المشروع بكامله.

وما دام الصراع قائمًا على من يملك الحق في أن يسمي القدس باسمه، فإن المعركة لم تبدأ بعد.

وما دامت المدينة قادرة على إفشال الهندسة الصهيونية منذ نصف قرن، فإن مركزيتها لن تزول، لأنها بكل بساطة حجر الوعي الأول في هذا الصراع، وسقفه الأخير.

شاهد أيضاً

مغالطة التكلفة المهدرة: لماذا يصعب علينا التخلي عن مشروع بدأناه؟!

إن استمرارك في قرار ما أو استثمار وقتك أو مالك أو جهودك فيه، رغم أن …