حين تدار غزة عبر الوقود.. السياسة والطاقة في زمن الحرب
في غزة، حيث تتعرى مأساة الإنسان أمام منطق القوة البارد، لم يعد النفط مجرد مادة خام تشعل المصابيح أو تحرك الآلات، بل تحول إلى قيد إستراتيجي يلف عنق القرار السياسي. إنها ليست أزمة طاقة، بل أزمة سيادة، حيث تتحول شاحنات الوقود إلى مفاتيح تأثير في إدارة المشهد السياسي واتخاذ القرار.
لقد أضحى الوقود هنا، في واحدة من أكثر بؤر العالم ازدحاما وتعقيدا، سلاحا خفيا يملك القدرة على إيقاف قلب الحياة دفعة واحدة، من المستشفيات إلى محطات المياه.
في أدبيات النزاعات المعاصرة، يشار إلى هذا النمط بوصفه تسليح الخدمات الأساسية (Weaponization of Essential Services)، حيث تستخدم البنية التحتية المدنية، كالكهرباء والمياه والوقود، كوسيلة ضغط غير عسكرية. وفي حالة غزة، يكفي الأثر الفعلي لهذه السيطرة لإنتاج نتائج سياسية ملموسة.
النفط أداة نفوذ خفية
لم تكن الطاقة في حرب غزة مجرد مورد اقتصادي، بل تحولت إلى سلاح سياسي ناعم أعاد رسم موازين القوة على الأرض.
تستخدم الطاقة في النزاعات الحديثة كوسيلة ضغط غير عسكرية تمكن الأطراف المسيطرة من توجيه قرارات الخصوم دون اللجوء إلى القوة المسلحة.
وفي حالة غزة، شكل الوقود إحدى أهم أدوات السيطرة السياسية، فكل شاحنة أو قافلة وقود كانت بمثابة بطاقة حياة أو موت، وكل قرار بإغلاق المعابر كان يحمل بعدا سياسيا يؤثر مباشرة على قدرة السلطة المحلية على إدارة الموارد الحيوية. إذ إن الاعتماد على واردات الطاقة يحول الكيانات إلى أدوات رهينة للضغط الخارجي.
في غزة، جعل الاعتماد شبه الكامل على الوقود المستورد السيطرة على المعابر أداة فعالة، سواء عبر تعطيل الخدمات العامة أو خلق أزمات داخلية تستخدم كورقة تفاوضية. وبهذا يتحول الوقود من سلعة اقتصادية إلى أداة ضغط سياسي حقيقية.
اقتصاد هش على صفيح الوقود
يعتمد القطاع بشكل شبه كامل على الوقود المستورد لتشغيل المولدات ومحطات المياه والصرف الصحي، ما يجعله هشا أمام أي انقطاع. ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، أدى نقص الوقود إلى توقف العديد من الصناعات والمرافق الحيوية، ما تسبب في ارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية، وانخفاض الإنتاجية المحلية، وزيادة صعوبة تأمين الخدمات الضرورية.
ويعتمد ملايين السكان على محطات ضخ المياه التي تعمل بالديزل، وعند انقطاع الوقود تتوقف هذه المحطات، ما يخلق أزمة إنسانية واقتصادية متزامنة. هذا الوضع يجعل الاقتصاد المحلي أكثر هشاشة أمام أي تقلبات في الإمداد، ويضع إدارة الخدمات الأساسية تحت ضغط دائم.
الحياة رهينة للديزل
أدى انقطاع الوقود إلى اختلال شديد في الخدمات الأساسية، من المستشفيات إلى شبكات المياه والمولدات الكهربائية. ووفقا لتقارير OCHA ووكالات صحية دولية، توقف العديد من محطات ضخ المياه عن العمل، مما عرض نحو 77% من مرافق المياه للخطر.
وفي المستشفيات، أدى نقص الكهرباء والوقود إلى تعليق الخدمات الطبية الحيوية، بما في ذلك تشغيل الأجهزة الضرورية لإنقاذ حياة المرضى. ويصبح الضغط على الوقود، إذن، مسألة حياة أو موت، مؤكدا أن الطاقة ليست مجرد مورد اقتصادي، بل أداة إستراتيجية إنسانية وسياسية.
الطاقة في صراعات العالم
يوضح التاريخ السياسي المعاصر أن التحكم بالموارد الأساسية لا يقتصر تأثيره على الجانب الاقتصادي، بل يستخدم كأداة ضغط سياسية. وقد تكررت صورة ذلك من العراق بعد حرب الخليج، حيث كان النفط جزءا من الحصار والعقوبات، إلى اليمن الذي عكست السيطرة على الموارد فيه الانقسامات الداخلية، وصولا إلى فنزويلا التي كشفت أزمات النفط فيها ارتباط الطاقة بالاستقرار السياسي والضغط الدولي.
وعلى الرغم من أن التحكم بالوقود، كأداة ضغط، قد يفرض قرارات سريعة في أوقات النزاع، فإن الأدلة من تجارب دول أخرى تظهر أن هذه الضغوط الاقتصادية والتأثيرات على مصادر الطاقة غالبا ما تكون لها آثار عميقة على الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وقد لا يحول النجاح المؤقت إلى مكاسب سياسية دائمة، بل إن هذه السياسات، بدلا من ذلك، تزيد من الاستياء الداخلي، وتعقد الحلول السلمية، وتطيل أمد الصراع بدلا من اختصاره.
معادلة البقاء: وقود أم فناء؟
في المحصلة، يثبت نموذج غزة أن الوقود ليس مجرد مادة قابلة للاحتراق، بل هو قلب النظام السياسي وورقة اللعب الأشد فتكا. إن التحكم في كل قطرة ديزل أو بنزين لا يهدد بانهيار المستشفيات والمرافق الأساسية فحسب، بل يكرس نظاما من التبعية الإستراتيجية، يبقي الحياة في القطاع رهينة لقرار خارجي.
إن المقارنة مع التجارب الدولية الفاشلة تطلق تحذيرا واضحا: هذه السياسات التي تستخدم الطاقة لفرض الإرادة قد تمنح نفوذا تكتيكيا قصيرا، لكنها حتما تعمق الجرح المجتمعي، وتصعب الحلول السلمية، وتطيل أمد الصراع عبر خلق أزمة إنسانية مستدامة.
في غزة، تحولت الحياة إلى معادلة بسيطة وقاسية: وقود أو فناء. هذه المعادلة لا تعكس فقط أزمة إنسانية، بل تؤكد أن من يسيطر على الطاقة اليوم يفرض مشهد السياسة والغد، جاعلا من القطاع أرضا للحكم بالحد الأدنى من البقاء.
معلومات الموضوع
الوسوم
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة
