أول ما سمعتُ هذه الكلمة، سمعتها من امرأة غزاوية شابة قبل حرب طوفان الأقصى، وكان قد قُتل زوجها، فقابلت استشهاده بقولها: يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى.
امرأة شابة تحتاج إلى زوجها كأكثر ما يكون الاحتياج؛ تحتاجه لحاجتها النفسية، وتحتاجه لحاجتها الجسدية، وتحتاجه لحاجتها المادية، وتحتاجه لتربية أولاده وأولادها الصغار.
ومع كل ذلك تتعالى بصبرها عن بشريتها وتقول: يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى.
ثم بعد ذلك تردد هذا الشعار كثيرًا في حرب طوفان الأقصى؛ إذ يقوله الكثيرون من أبناء غزة ويضيفون عليه:
يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى،
وخذ من دمائنا حتى ترضى،
وخذ من أهلنا حتى ترضى،
وخذ من بيوتنا حتى ترضى،
وخذ من أموالنا حتى ترضى.
إنهم يتساءلون عن مشروعية قول أهلنا المجاهدين في غزة: يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى!
وقد اندهشت عندما وجدت البعض يسأل عن مشروعية هذا الدعاء.
والذين يسألون عن مثل هذا فريقان اثنان؛ فريق يسأل مخلصًا في سؤاله، فهو يؤيد المقاومة ويكبرها، ويود لو ينصرها بنفسه وماله، ومع ذلك يحب أن يتحقق من كل فعل وقول حتى تكون الاستقامة على منهج الله وسنة نبيه في كل صغير وكبير.
وهذا الفريق في أعلى المنازل؛ منازل الصديقين الذين أنار الله بصرهم وبصيرتهم، فعلموا الحق من الباطل، ووقفوا مع الحق بكل ما أوتوا، وخافوا عليه من الحيد والزيغ، فكانوا له المتسائلين المتحققين في كل صغيرة وكبيرة حتى يكون الحق ولا دَخَن فيه.
وأمثال هؤلاء هم من أكبر ناصري أهل الحق المجاهدين؛ فلولاهم لربما حاد أهل الحق شيئًا فشيئًا دون أن ينتبهوا، وخصوصًا في صغار الأمور. وكبار الأمور لا تكون إلا بصغارها أولًا؛ فالصغير بداية الكبير، والصغير بالصغير يغدو كبيرًا، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
والفريق الثاني الذي يسأل عن مشروعية هذه الكلمة هم ممن ابتُليت بهم الأمة في تاريخها المعاصر كما ابتُليت بهم في كل تاريخها.
أولئك المرجفون، عُبّاد كل ظالم وفاسد، وأتباع كل ناعق وزاعق من أهل الظلم والفساد.
هؤلاء الذين لا يجدون أهل الحق في معركة إلا ويقفون ضدهم ومع أهل الباطل في مواجهتهم؛ ففي معركة أهل الحق مع الحكام الظلمة الفاسدين يصرخون بطاعة الحكام الواجبة وبأن الخروج على الحكام ممنوع ومحرم. وفي معركة أهل الحق مع المحتل اليهودي الغاصب يصرخون بعدم الجاهزية والقدرة على المواجهة، وبعنترية وتهور المجاهدين المقاومين، وبحكمة وروية الحكام المنبطحين المستسلمين.
هل كنا نتخيل أن يظهر في أمة الإسلام من يقول بأن اليهود ولاة أمور، وبأن الخروج عليهم هو من مخالفة العهود والمواثيق التي عُقدت معهم؟! قالها والله أحد من يُنسبون إلى العلم والدعوة من رؤوس المدخلية.
وهل كنا نتخيل أن يظهر في أمة الإسلام من يشمت في موت أبي عبيدة صوت المقاومة في غزة؟! فعلها والله أحد من يُنسبون إلى العلم والدعوة من رؤوس المدخلية.
نعود ونقول: إنهم يتساءلون عن مشروعية قول أهلنا المجاهدين في غزة: يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى!
أهل فلسطين عمومًا وأهل غزة خصوصًا يستحقون النصر؛ فإن كان ما يحدث فيهم بلاء، فهو بلاء بما كسبت أيدي الأمة كلها
وقد قالها طلحة بعد مقتل عثمان في موقعة الجمل، مستشعرًا شيئًا من الذنب تقصيرًا في نصرة عثمان والدفاع عنه؛ قال: يا رب خذ مني لعثمان حتى ترضى.
وقالها عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة وقد وجد شدة عند موته، فاستشعر ذنبه وتقصيره وقال: اللهم خذ مني حتى ترضى.
هذه الكلمة يقولها من يستشعر الذنب والتقصير، وأن ما ينزل به من البلاء هو بذنبه وتقصيره. وقد قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
لكن الأمر لا بد أن يُذكر بتمامه...
قضية فلسطين ليست قضية أهلها فقط، وإنما هي قضية الأمة كلها؛ فالمسجد الأقصى هو مسجد الأمة المسلمة كلها، وبالتالي فإن الذي يحدث هناك، إن كان بلاء بسبب الذنب والتقصير، فهو بلاء بسبب ذنب وتقصير الأمة كلها، وليس بذنب وتقصير أهل فلسطين فقط.
وقدر أهل فلسطين أنهم يعيشون في تلك البقعة، فوقع البلاء عليهم دون غيرهم من بقية الأمة.
بل إن الظاهر ليشهد بأن أهل فلسطين فيما يبدو لنا هم أقل الأمة المسلمة غيًا وفسادًا، وخصوصًا فيما رأيناه من أهل غزة في المرحلة الأخيرة منذ حكمتها حركة المقاومة الإسلامية.
رأينا في غزة حلقات القرآن التي تملأ الآفاق، وحلقات المجاهدين التي تتأهب للجهاد والموت في سبيل الله. ورأينا في غزة قادة يسبقون جنودهم للشهادة، وجنودًا يسارعون وراء قادتهم لينالوا ما نالوه. ورأينا صورًا من الصبر والجهاد لم نر مثلها في تاريخنا المعاصر، بل وربما لم نر مثلها في التاريخ كله.
أهل فلسطين عمومًا وأهل غزة خصوصًا يستحقون النصر؛ فإن كان ما يحدث فيهم بلاء، فهو بلاء بما كسبت أيدي الأمة كلها، لا بما كسبت أيديهم هم خاصة.
ولم يُصبهم البلاء هم خاصة إلا لأنهم أهل المسجد الأقصى الذين يعيشون بجواره، مرابطين مجاهدين، والبلاء في أي قضية يصيب الأقرب فالأقرب.
الله عز وجل يغضب لانتهاك حرماته وللبعد عن نهجه وسنة نبيه، فيُصيب بالمصائب والبلايا لذلك. وهو سبحانه وتعالى في قضية فلسطين خاصة؛ قضية المسجد الأقصى بقدسيته ورمزيته، لا يعامل أهل فلسطين خاصة، وإنما يعامل الأمة المسلمة كلها؛ إذ يظل المسجد الأقصى في طول تاريخها علامة على حالها وقوتها ومكانتها.
يأخذ الله من أهل فلسطين أرواحهم ودماءهم ويرضى عنهم، ويأخذ من بقية الأمة عزتهم وكرامتهم وطمأنينة قلوبهم ولا يرضى
كل مصيبة تنزل على أهل فلسطين هي والله بما كسبت أيدي الأمة كلها. وإخواننا المجاهدون في أرض فلسطين، مع جهادهم وثباتهم، يصبرون على ما يصيبهم في سبيل الله، ويقولون بلسان حالهم ومقالهم: يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى.
مع أنه إن كان الله سيعاقب بالذنب وسيأخذ من الأرواح والدماء، فإن أولى من يستحقون ذلك الأخذ منهم هم الأمة المسلمة كلها من ورائهم.
لكن الله، وإن كان يأخذ من أهل فلسطين من أرواحهم ودمائهم حتى يرضى، وهو سيرضى عليهم بذلك بإذنه تعالى، فإنه يأخذ من الأمة كلها كرامتها وعزتها، فتغدو أذل الأمم وأحطها، ويأخذ طمأنينة قلوب أهلها وبهجة نفوسهم، فيغدون أبأس أهل الأمم وأكثرهم همًا وغما، وهو مع ذلك الأخذ لا يرضى عنهم.
يأخذ من هؤلاء أرواحهم ودماءهم ويرضى بذلك عنهم لأنهم يعطونها مجاهدين ثابتين صابرين، ويأخذ من أولئك عزتهم وكرامتهم وطمأنينة قلوبهم وبهجة نفوسهم ولا يرضى لأنه يأخذها منهم وهم عاصون مذنبون متخاذلون خائنون يبيعون إخوانهم وقضيتهم.
