بين الإخلاص والهندسة: المعادلة التي تحفظ عمر الحركات

الرئيسية » بصائر تربوية » بين الإخلاص والهندسة: المعادلة التي تحفظ عمر الحركات
Islamic movement- people

حين ننظر في مسار الحركات الإصلاحية خلال القرن الأخير، نرى مشهدًا محيِّرًا في ظاهره: تنظيمات مخلصة، تحمل قضايا عادلة، وقدّمت تضحيات ضخمة، ومع ذلك تتعثر في لحظاتٍ مفصلية؛ وأخرى تبقى تحت الحظر والملاحقة أعوامًا طويلة دون أن تختفي.

هذا التفاوت لا يمكن شرحه فقط بدرجة الإيمان أو الإخلاص أو قوة الخطاب، لأن كل ذلك مع ضرورته لا يكفي لتفسير لماذا سقطت حركات وهي في ذروة شعبيتها، ولماذا صمدت أخرى وهي تحت أقسى أنواع التضييق.

هنا تبرز فكرة أخرى أعمق: أن الفشل والنجاح -في كثير من الأحيان- ليسا مسألة أخلاقية فقط، بل مسألة هندسة. أي: كيف صُمِّم الجسد الحركي الذي يحمل الفكرة؟ كيف وُزِّعت الطاقة داخله؟ كيف قُرئ الزمن من حوله؟ وكيف أُخذت البيئة السياسية والأمنية في الحسبان منذ البداية؟

هذا الحديث لا يعني أن الحركة المعنية ضعيفة أو معيبة، بل العكس تمامًا: النقد هنا فعلُ حماية، ومحاولة لتقوية الجذور حتى لا تسقط الشجرة عند أول عاصفة. كلما اشتدت التحديات أصبح من الواجب مراجعة “هندسة الحركة” نفسها، لا الاتكاء على صدق القضية وحده. وهذه الهندسة هي جزء من مقارعة الباطل؛ لأنك حينما تقوم بالمراجعة وهندسة البناء الداخلي، وتلمّس مكامن الخلل، فإنك تحسن الإعداد للمواجهة، وتطبيق لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..}.

الهندسة في هذا السياق ليست رسوماتٍ وخططًا، بل وعيًا بالمقادير: كم نحتمل؟ إلى أين نستطيع أن نتمدد؟ أين تنتهي الطاقة وتبدأ المغامرة غير المحسوبة؟ متى تكون المرونة فضيلة؟ ومتى تتحول إلى خرقٍ في الجدار الداخلي؟

عندما تتحول المراعاة إلى خلل في البنية

من أول مواطن الخلل أن تتحول “المراعاة” إلى بديل عن “المهنية”. الحركات عادة تبدأ بمعايير صارمة: انتقاء شديد، تربية مكثفة، حساب دقيق للأدوار. ثم مع الزمن يتسلل منطق آخر: لا نريد أن نخسر أحدًا، الظروف ضاغطة، الناس متعبون، الشباب يتقلبون… فيُخفَّض السقف قليلًا، ثم أكثر، ثم يصبح الاستثناء قاعدة.

لا يُحاسَب المقصّر كي لا يُحرج، ولا يُستبعد الضعيف كي لا يُكسَر خاطره، ولا يُسأل القائد عن تراجع عطائه تقديرًا لتاريخه. هذا لا يُنتِج صفًّا رحيمًا فحسب، بل يُنتِج مع الوقت صفًّا هشًّا، ممتلئًا بالأجساد، فقيرًا في الأعمدة الحاملة. ويفتح المجال للولاء للأشخاص لا للفكرة، ويأخذ مسار الصواب من رأي الشخص وليس من النظر في المآل ومقاربته للصواب وبعده عن الخطأ!

المسألة هنا ليست قسوة في مقابل رحمة، بل ضبطًا للمسافة بينهما. فحين تصبح المراعاة هي القاعدة، والمهنية استثناءً يُستدعى في لحظات الأزمات، تكون الحركة قد نقلت مركز ثقلها من “قوة المعايير” إلى “سلامة الخاطر”. عندئذٍ يبدو كل شيء جميلًا في أوقات الرخاء، لكن البناء يتصدع عندما تُرفع درجة الضغط. ليس لأن الناس سيئون، بل لأن الجسد الحركي لم يُبنَ ليتحمّل الوزن الذي سُلِّط عليه.

حين تصبح المراعاة هي القاعدة، والمهنية استثناءً يُستدعى في لحظات الأزمات، تكون الحركة قد نقلت مركز ثقلها من “قوة المعايير” إلى “سلامة الخاطر”. عندئذٍ يبدو كل شيء جميلًا في أوقات الرخاء، لكن البناء يتصدع عندما تُرفع درجة الضغط

 الزخم ليس دليلًا على القوة

تمرّ الحركات، خاصة المرتبطة بقضايا الأمة الكبرى وأبرزها حركة المقاومة الإسلامية حماس أو فروع جماعة الإخوان المسلمين، بموجات هائلة من التعاطف الشعبي؛ لحظات يتوحّد فيها الوجدان، وتُرفَع فيها الشعارات، ويزداد فيها عدد الراغبين في الاقتراب من الجماعة أو الحركة والانخراط في أطرها. ما شهدناه مؤخرًا في قضايا مركزية مثل فلسطين نموذج واضح: أجيالٌ كاملة تحركت، شباب لم تكن لهم سابق علاقة، جماهير تفتح قلبها وأذنها أمام خطاب مقاوم.

لكن اللحظة ليست البنية. وارتفاع الموجة ليس ارتفاع الأرض.

الخطر في تفسير خاطئ لهذا الزخم: أن تظن الحركة أو الجماعة أنها أصبحت أقوى ممّا كانت، بينما الذي أصبح أقوى هو السياق لا البنية. فالموجة ترفع الجميع، بمن فيهم مَن لا يعرفون قيمة “الالتزام” ولا معنى “العمل طويل المدى”. وعندما تخفت الموجة، يبقى من صعد معها معلّقًا بلا جذور.

الهندسة الحقيقية لا تنخدع باللحظة. تستثمرها، نعم، لكنها لا تقيم عليها تقدير قوتها. لأن  اللحظة تمنح “انتفاخًا”، لكنها لا تمنح “صلابة”. لكن الخطأ أن يمر هذا الزخم دون نشر للفكرة، ودون تحقيق زيادة مدروسة لأعداد التنظيم، واستقطاب الأنصار والمؤيدين له .

تجاهل الخطر كما لو أنها ليست مستهدفة

الحركات الإسلامية الإصلاحية -خصوصًا ذات الامتداد الشعبي- محاطة بأنظمة تعتبر وجودها نفسه تهديدًا، وتحرك أبواقها وعملاءها ولقطاءها لتشويه صورتها والتحذير منها، هذا الاستهداف ليس عابرًا، بل جزءًا من معادلة الأمن السياسي في المنطقة. ومع ذلك نجد أحيانًا أن الحركة تتصرف كما لو أنها تتحرك في فضاء محايد.

تبني هياكل ضخمة فوق أرض رخوة، وتفتح واجهات متعددة يصعب حمايتها جميعًا، وتوسع حضورها العلني أكثر مما تسمح به البيئة السياسية. هذا الشكل من الحضور قد يبدو قوة، لكنه هندسيًا يشبه هيكلًا واسعًا قائمًا على أعمدة قليلة.

الوعي بالاستهداف ليس خوفًا… بل فنّ البقاء . وإعادة توزيع الحضور لا تعني التراجع، بل تعني أن الحركة أصبحت أذكى في حماية نفسها. النقد هنا ليس طعنًا في جرأة الحركة، بل حماية لشجاعتها حتى لا تتحول إلى تهور.

لماذا تذوب الحشود وتبقى النواة؟

الكمّ لا يكفي. والتاريخ التنظيمي الحركي كله يقول ذلك.

الحركة قد تمتد أفقيًا، وقد يزداد منسوب الانخراط فيها، وقد تتكاثر دوائر التعاطف حولها، لكن هذا لا يعني أن بنيتها أصبحت أصلب. فالكثرة قد تكون عبئًا حين لا تتوازن مع كثافة النوع.

الفارق بين الحركة التي تتوسع ضبطًا، والحركة التي تتوسع عاطفةً، يظهر عند أول ضغط: يذوب كثير من الأعضاء مثل الملح في الماء، ويظل العدد القليل الذي صُنع على عين الفكرة. عندئذٍ نكتشف أن “الحشد” لا يُساوي “الصفّ”، وأن “الانتشار” لا يساوي “الوزن”. الهندسة هنا تعيد تعريف القوة: ليست بمن يحيط بك عند الهتاف، بل بمن يبقى بجانبك عند المحنة.

إنّ قصة طالوت وجنده في القرآن تكشف نموذجًا دقيقاً عما تقدّم. فالجماعة كانت كبيرة في بدايتها، تحمل حماسة الطلب والرغبة في التغيير، لكن الله أفرد لها اختبارًا بنيويًا: اختبارًا يُسقط الحشود ويُبقي الجوهر، اختبارًا يفرز لا ليُضعف العدد، بل ليُقوّي القدرة. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِـنَهَرٍ﴾ وما إن جاء الامتحان حتى تلاشت الأعداد الضخمة، وبقيت فئة قليلة، تلك التي وصفتها الآية التالية بقولها: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾.

هذه ليست قصة تاريخية تُروى، بل قانونٌ اجتماعي يتكرر: الكثرة تسبق الاختبار، والنوعية تتجاوزه.

الحشود تتدفق عند الأمل، وتتبخر عند الصعاب، أما “النواة الصلبة” فهي التي تحمل الفكرة تحت الضغط، وتُنضج التجربة في زمن التراجع.

لقد أراد الله أن يعلّم البشر أن الثبات لا يُقاس بالعدد، بل بالقدرة على اجتياز المشقة دون أن تنطفئ الفكرة في القلب.

ولذلك جاء وصف القلة الناجية: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾

وهو نصّ ليس عن الحرب فقط، بل عن طبيعة “الصفّ” الذي يُعوَّل عليه لبناء حركة، أو لرفع أمة.

ومن هنا تفهم الحركات أن الحفاظ على النواة ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة وجودية تشبه ضرورة “الذين جاوزوا النهر”: القلّة التي يُبنى عليها المستقبل، ولو بدا طريقها أقل صخبًا وأكثر مشقة.

الحفاظ على النواة ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة وجودية تشبه ضرورة “الذين جاوزوا النهر”: القلّة التي يُبنى عليها المستقبل، ولو بدا طريقها أقل صخبًا وأكثر مشقة

 الزمن والخطأ في قراءته

الزمن ليس مجرد سياق خارجي، بل لاعبٌ أساسي في المعادلة.

فالحركة قد تسبق زمنها فتستنزف نفسها، وقد تتأخر عنه فتضيع الفرص، وقد ترفع سقف خطابها في وقت كان المطلوب فيه حماية الصف، وقد تنكمش حين تكون اللحظة نادرة لا تتكرر.

الهندسة التنظيمية تقرأ الزمن كما يقرأ الربّان حركة الرياح: ليست القضية إلى أين تريد الذهاب، بل متى تستطيع أن تنطلق، وبأي سرعة، ومع أي حمولة . فالقرار ذاته قد يكون حكيمًا اليوم، مدمرًا غدًا، ومناسبًا بعد عامين.

الحركة التي لا تضبط علاقتها بالزمن تشبه من يسير في الاتجاه الصحيح… لكن بخطوة لا تناسب إيقاع الطريق.

هذه السُنّة الزمنية تُفيد الحركات اليوم: ليس كل انكماشٍ ضعفًا، ولا كل توسيعٍ قوة. فقد تُوسّع الحركة حين يكون المقصود كسب الوعي العام، ثم تغلق أبوابها حين يكون المقصود بناء الصفّ القائد؛ وقد تنفتح على الجماهير في لحظة، ثم تنكفئ إلى نواتها بعد ذلك لتعيد هندسة ذاتها. المهم ليس شكل الحركة في كل لحظة، بل قدرتها على اختيار النسق الذي يحقق المقصود من المرحلة.

ولنا في السيرة النبوية المطهرة عبرة، فالحركة التي تفهم الزمن كما فهمته النبوة تدرك أنّ الانضباط المكي لا يناقض الاتساع والتمدد المدني، بل يكمله؛ وأنّ الانغلاق النسبي قد يكون خطوة ضرورية لحماية ما تم بناؤه، تمامًا كما كان التحوّل من دار الأرقم إلى الدولة في المدينة المنورة هو لحظة التحول من الوعاء المغلق إلى البناء الصلب الظاهر للكل.

الحركة التي تفهم الزمن كما فهمته النبوة تدرك أنّ الانضباط المكي لا يناقض الاتساع والتمدد المدني، بل يكمله؛ وأنّ الانغلاق النسبي قد يكون خطوة ضرورية لحماية ما تم بناؤه، تمامًا كما كان التحوّل من دار الأرقم إلى الدولة في المدينة المنورة هو لحظة التحول من الوعاء المغلق إلى البناء الصلب الظاهر للكل

وهكذا، تصبح مرونة الانتقال بين أطوار الزمن جزءًا من هندسة القوة، لا من علامات الضعف. فالحركة التي تتقن هذا الانتقال هي الحركة التي لا تأكلها اللحظة، ولا يبتلعها الاتساع ولا الانكماش، لأنها تعرف أن الزمن نفسه أحد أدوات البناء، لا مجرد مسرح للأحداث.

ختاماً: حين نشير إلى هذه الاختلالات الهندسية، فنحن لا نقول إن الحركة ضعيفة، بل نقول إنها تستحق أن تكون أقوى. ولا نقول إنها فشلت، بل نقول إن أمامها فرصة نادرة لإعادة هندسة ذاتها بما يليق بعظم قضيتها. ولا نقول إن الأفراد مقصّرون، بل نقول إن التحديات أكبر من أن تُواجه بمعادلات قديمة أو هندسات مرتجلة.

الحركة التي تملك الشجاعة لمراجعة ذاتها هي الحركة التي تملك الشجاعة لصناعة مستقبلها . والتي تفهم مقاديرها تفهم كيف تصمد، وكيف تتوسع، وكيف تتراجع حين يجب التراجع، وكيف تتقدم حين يكون التقدم ضرورة وجودية.

الهندسة هنا ليست خصمًا من رصيد الحركة… بل هي حساب دقيق لمقدار قوتها الفعلية، حتى لا تقع، وحتى لا تخدع نفسها، وحتى لا تُفاجأ بوزنٍ لم تُقدَّر ثقله.

الحركة التي تتقن هندسة ذاتها، هي الحركة التي تعبر الزمن… لا التي يعبر الزمن من فوقها. ولا يعني أنك على الحق أن تغفل عن هندسة الذات والتطوير خصوصاً بعد كل جولة وكل تحدٍ تنتصر فيه وتثبت فيه على مبادئك.

 

كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

لماذا يعطل الإنسان عقله؟ الغباء كظاهرة نفسية واجتماعية

الغباء، في صورته اليومية، يثير السخرية أحيانًا، والشفقة أحيانًا، والغضب في كثير من الأحيان. لكن …