تجديد الخطاب الدعوي: قراءة جديدة لإنسان ما بعد العصر الرقمي

الرئيسية » بصائر تربوية » تجديد الخطاب الدعوي: قراءة جديدة لإنسان ما بعد العصر الرقمي
Islamic dawah

لم يعد ممكنًا للدعوة الإسلامية أن تستمر بلغتها التقليدية التي تربّت عليها الأجيال السابقة. فالعالم الذي يخاطبه الداعية اليوم شديد التعقيد؛ جيل متنوّع في اهتماماته، مُثقل بأسئلته، يعيش في فضاء مفتوح تترك فيه مئات الأصوات أثرًا في ساعة واحدة.

وهذا يفرض أن تتطور المنهجية الخطابية لا من خلال تغيير جوهر الرسالة، ولكن عبر إعادة هندسة الطريقة التي تقدّم بها الرسالة نفسها.

التجديد هنا ليس “تضليلًا” للجمهور ولا “تبرجًا” أمام العصر، بل هو وفاء للروح القرآنية التي نزلت متدرجة، محاورة، خفيفة العبارة، كثيفة المعنى، قادرة على أن تتشكل مع الإنسان دون أن تتلون به.

الجيل الذي تبدّلت أسئلته قبل أن تتبدّل معارفه

الجيل الجديد لا يعاني من نقص في المعلومات، بل من ضياع البوصلة. فهو يعرف كثيرًا ولا يفهم شيئًا. و يحفظ الحقائق، لكنه عاجز عن الربط بينها وبناء معنى مستقرّ لها في داخله.
وهذا ما يجعل خطاب الوعظ المباشر أو الإرشاد الأخلاقي السريع فاقدًا لفاعليته، لأن المشكلة ليست في “الجهل” بل في “الحيرة”.

جيل اليوم يواجه أزمات مركّبة:

  • انكسار المعنى،
  • تشوّش الهوية،
  • القلق الوجودي،
  • الخوف من المستقبل،
  • وغياب السند النفسي والاجتماعي.

خطاب الدعوة لا يمكن أن يتجاوز هذه الأزمات ويقفز مباشرة إلى الحديث عن الأحكام، لأن الأحكام لا تعمل في الوعي المضطرب، ولأن التكليف لا يستقرّ في قلب خائف أو مشتّت. وبنفس الوقت لا يمكن أن يتحدث بأمور غير واقعية تحدث فجوات كبيرة بين المربين والمتربين.

الخطاب الجديد يجب أن يبدأ من مواطن الألم قبل مواطن التنبيه، ومن أسئلة الإنسان قبل نصوص الأحكام، ومن المعنى قبل التوجيه. وبالتالي حين يشعر الجيل أن الداعية يفهم صراعاته، يمكنه أن يسمع منه؛ وحين يشعر أن الخطاب يتجاهل معاناته، فإنه يغلق سمعه قبل أن يسمع الكلمة الأولى.

الخطاب الدعوي لا يفقد تأثيره حين يواجه تغيّر الزمن، بل حين يعجز عن فهم الإنسان الذي يخاطبه؛ والتجديد الحقيقي يبدأ من إدراك تحوّل الأسئلة قبل تغيّر الإجابات

التحوّل من خطاب الوعظ إلى خطاب المعنى

أكثر ما يفقد الخطاب الدعوي تأثيره أنه يقفز مباشرة إلى “النتيجة الشرعية” دون أن يقدّم “السياق الوجودي” الذي يجعل النتيجة مقبولة. وفي نفس الوقت فإنّ جيل اليوم لا يتجاوب مع خطاب يقول له “افعل ولا تفعل”، لكنه يتجاوب مع الخطاب الذي يساعده على فهم:

  • لماذا خُلق؟
  • ما قيمة وجوده؟
  • كيف يتوازن بين رغباته ومنظومته القيمية؟
  • ما الذي يفعله الإيمان في الإنسان؟
  • ولماذا يحتاج إلى علاقة مع الله أصلًا؟

إن التجديد الحقيقي في الخطاب يبدأ حين يتحول الداعية من “مقدّم تعليمات” إلى مهندس للمعنى. و هنا يصبح الخطاب مساحة لتفسير الوجود، وليس منصة لإسقاط النصوص فوق رؤوس الناس. ويصبح القرآن كتابًا يعيد الإنسان إلى نفسه، لا كتابًا لتبرير السلطة الأخلاقية للداعية.

في هذا المستوى من الخطاب، تتغير بنية اللغة:

  • تصبح أقل تعاليًا،
  • أكثر قربًا،
  • أكثر اشتباكًا مع الإنسان،
  • وأكثر وعيًا بأن الدين يخاطب الفطرة قبل أن يخاطب التكليف.

جيل اليوم لا ينتظر من الداعية مزيدًا من الأحكام، بل مزيدًا من الفهم؛ إنه يحتاج إلى خطاب يراه، يلاقي قلقه، ويعيد تشكيل معنى الإيمان في قلب عالمٍ سريع التبدّل

لغة تليق بالدعوة… ولا تُهين العقل

تجديد الخطاب لا يعني أن يتحدث الداعية باللهجة الحديثة أو أن يقترب من لغة الشوارع ليصبح “شبابيًا”؛ فهذا يضعف الهيبة ولا يزيد التأثير. بل إن اللغة المطلوبة هي لغة عقلانية وجدانية، هادئة الإيقاع، عميقة الجذر، تراعي ثلاثة توازنات:

١. التوازن بين الإيمان والعقل : فالجيل الجديد شديد الحساسية تجاه الخطاب الذي يطلب منه الإيمان دون أن يقدّم له تفسيرًا. وهو في الوقت نفسه لا ينجذب إلى الخطاب العقلي البارد الذي لا يحرّك الإحساس. وأقوى خطاب هو الذي يقدّم الفكرة في قالب روحي، ويقدّم الروح في قالب فكري، دون صدام بينهما.

٢. التوازن بين النص والسياق: النص ليس معزولًا عن التاريخ ولا عن النفس ولا عن المجتمع، وتقديم النص دون فهم سياقه يجعل الخطاب يبدو جامدًا أو غير واقعي، أما حين يُربط النص بسياق النفس والحدث والزمان، فإنه يتحول إلى رسالة حيّة.

٣. التوازن بين الثابت والمتغير: لا يجوز تقديم الأحكام الشرعية وكأنها قوانين ميكانيكية، ولا يجوز جعل المتغيرات تتحكم في الثوابت. فالخطاب الناضج يعرف كيف يحفظ قدسية الأصل مع مرونة الوسيلة.

من وظيفة النصيحة إلى وظيفة المواكبة

الداعية في الزمن الجديد لم يعد مطالبًا فقط بقول “افعل ولا تفعل”، بل مطالبًا بأن يكون دليلًا روحيًا وفكريًا يساعد الإنسان على العبور. و الجيل الجديد يعيش أزمات نفسية واجتماعية وفكرية عميقة، ولذلك فإن أعظم ما يقدمه الخطاب الدعوي ليس الخطبة ولا الحكم، بل “المرافقة”، وهي تعني:

  • الإصغاء،
  • الاعتراف بالألم،
  • تقديم التفسير،
  • صنع المعنى،
  • التفاعل مع الأسئلة،
  • تخفيف الحيرة،
  • وفتح طريق العودة إلى الله دون تهويل ولا تهوين.

إنها دعوة تعيد الإنسان إلى مركز الخطاب، وتجعل النص يتحرك حوله، لا أن يُلقى فوقه من علٍ.

ليست الأزمة في كثرة المعلومات، بل في غياب البوصلة؛ ودور الخطاب الجديد أن يعيد ترتيب المعنى في عقل الجيل، لا أن يكرر صياغاتٍ راكدة تجاوزها الزمن

التجديد ليس مساومة… بل أمانة

من يظن أن التجديد تخفيف أو تفريط لم يفهم الحقيقة. فالتجديد هو العودة إلى جوهر القرآن، حيث البلاغ قائم على الحكمة، والتذكير قائم على الرحمة، والهداية قائمة على البصيرة، والخطاب قائم على أن “الإنسان أولًا”.

و الخطاب الذي يصلح للجيل الجديد هو الخطاب الذي يراه، يفهمه، يحترمه، ويقوده نحو الله من داخله لا من خلال ضغط خارجي عليه. والخطاب الذي يفشل في ذلك — مهما بدا صحيحًا — يكون منفصلاً عن الإنسان لا عن الدين.

وخلاصة الأمر فإن الدعوة لا تتجدد حين نُحدّث اللغة فقط، بل حين نفهم الإنسان الذي نكلّمه؛ فالثبات على الرسالة لا يعني الجمود على طريقتها، بل القدرة على تقديمها كما أراد الله: هدىً ورحمة ومعنى.

 

شاهد أيضاً

بين الإخلاص والهندسة: المعادلة التي تحفظ عمر الحركات

حين ننظر في مسار الحركات الإصلاحية خلال القرن الأخير، نرى مشهدًا محيِّرًا في ظاهره: تنظيمات …