حين يصبح الموت دافعًا للعمران لا باعثًا لليأس

الرئيسية » خواطر تربوية » حين يصبح الموت دافعًا للعمران لا باعثًا لليأس
tunnel

الموت، لفظة تستنفر كل مشاعر الذعر والألم في نفسك، بصورة عبّر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هادم اللذات". فإذا ما ذُكر الموت استحضر السامع الصورة القاتمة له: صورة الجثة الهامدة وقد خمدت فيها معالم وأنفاس الروح، ونُزِع من عينها بريق الحياة؛ روح تسبح في ملكوت الله، وجثة مسجاة بين الحاضرين لترقد رقدتها الأخيرة في حفرة من التراب، لتعود بذلك إلى الأصل الذي منه نشأت وخُلقت، وقد جُرِّدت من كل ما تملك حقيقة، وكأنك لم تلبث كل هذا العمر تدِبّ فوق الحياة، فقد أصبحت اليوم أثرًا بعد عين.

وقلّما يفكر أحدنا بالموت بصورة إيجابية عكس تلك الصورة السوداوية التي زُرعت في سويداء قلوبنا وعمق ذاكرتنا، حتى إذا تحدثت عنه صَنَّفك جلساؤك ومعارفك من اليائسين الكارهين للحياة، مع أنّ وصية إمام المرسلين وسيد المبشرين أوصتك بالإكثار من ذكره: "أكثروا ذكر هادم اللذات". وحاشى أن يكون هذا من باب اليأس ودفن معاني الحياة فيك وأنت على قيد الحياة؛ بل لما في ذكره من أثر في نفس وسلوك الفرد، والذي بالتالي يعود أثره على المجتمع كله، بل والحياة بأسرها.

هب أنك سافرت لبلاد بعيدة، تاركًا خلفك أهلك وبيتك ومسقط رأسك لتحسّن مستوى معيشتك، وتنقل من تعول من ضيق العيش ومحدوديته إلى فسحته وسعته. ألا يجعلك هدفك هذا تحتمل كل ما تجده من معاناة وقسوة الغربة، بل وهوانك على أهلها؟

بل هب أنّ زميلًا لك في العمل تجرأ عليك واغتصب بعضًا من حقوقك وتجاوز حدّه معك، فتجبر بك في غياب رئيس العمل، وما أصبرك على هذا الزميل إلا يقينك بعدل رئيسك، وأنها مسألة وقت فيعود ويفصل بينكما ويعيد الحق لنصابه. ألا يزرع ذلك في نفسك الثقة وتحمل المشاق بجسارة قلب وقوة شكيمة؟!

فما بالك وأنت تنظر لهذا الكون بأنّ له مدبّرًا وخالقًا لا يغفل عن شيء، ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة؟ فكل ما نمرّ به في هذه الحياة، بوطأتها وشدّتها، يبرز لك جمالية الموت، وتنتظره انتظار المحب لحبيبه إن أنت فقهته وأدركت حقيقته، بل وأدركت الغاية من الوجود؛ فتلقّيته مبتسمًا راضيًا لما فيه من جمال غابت حقيقته عن كثير من المسلمين، وما ذلك إلا لغفلتهم ونسيانهم الغاية الحقيقية التي خُلقوا لها.

حين تفهم الموت حقّ الفهم، لا يعود نهايةً مخيفة، بل يصبح مرآةً تعيد ترتيب أولوياتك، وتوقظ ما نام من قلبك، وتدفعك لعمارة حياتك وكأنك تغرس فسيلة الساعة

وما زلت أرى التساؤل يدور في خلدك عن جمالية الموت التي تحسبني أدّعيها، وكيف له أن يكون للموت أثر في إعمار النفس والحياة.

يكفيك أن فكرة الموت تنزع خضوعك لسطوة الشهوة بكل صورها وألوانها، وهي نفسها الواقية لك من مزالق الحياة والتردّي في مستنقعاتها الآثمة. فلو أنّ شياطين الإنس والجن اجتمعوا على أن يجرّوك لمستنقع الإثم، لن تنزلق إليه ما دام الموت ماثلًا أمامك. ولأن كل بني آدم خطّاء، وخطؤه الناتج عن غفلة أو نسيان أو ضعف مركب فيه، فهو في متّسع بقبول التوبة إن رجع واستغفر وأناب وتذكّر ونهى النفس عن الهوى.

ففكرة اعتقادك بالموت تجعلك تحرص على نفسك وقلبك وجوارحك، فتبذل كل جهدك في تزكيتها وإصلاحها، لتلقى الله بسلامة صدر وطهارة قلب وجوارح تهذبت بأمر الله. ثم ترى هذا الكون مزرعة فسيحة تبذل وسعك في عمارتها وزراعتها، حتى وأنت تتيقن أنك لن تبلغ وقت حصادها، لأن يقينك بمحاسبتك عن بذل الوسع والجهد على ما قدمت، وأنّ النتائج غير منوطة بك ولا أنت مسؤول عنها، يجعلك ذلك مدفوعًا إلى الإعمار دون الالتفات إلى النتائج.

ذكرُ الموت لا يصنع اليأس؛ بل يشحذ الوعي، ويهذب الشهوة، ويصنع في القلب نورًا يرى به الإنسان طريقه… كأن الموت بداية الفهم الحقيقي للحياة

وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".

وعلى الحقيقة، ما الموت إلا بداية لحياة جديدة؛ فهو نهاية لدار العبور ودار البلاء، وبداية لحياة أخرى، نهاية لحياة الغرس والزرع، وبداية لحياة جني الثمار والحصاد. وإن تأملت في هذا المعنى، كفيل أن يجعلك تغيّر نظرتك عن الموت بالكلية، فيدفعك للتخلص من الكسل والركود إلى النشاط والسعي والعمل الدؤوب للتخطيط لحياة لا فناء بعدها ولا كدر ولا نصب.

شاهد أيضاً

سيكولوجية الرويبضة

لا أدري متى بالضبط بدأ هذا القلق يتسلل إلى داخلي. ربما حين رأيت أحد الممثلين …