لا أدري متى بالضبط بدأ هذا القلق يتسلل إلى داخلي. ربما حين رأيت أحد الممثلين يتحدث عن الفلسفة السياسية وكأنه منظّر عالمي، أو حين جلست أستمع في حيرة إلى فنانة تتصدر برنامجًا حواريًّا عن التربية وقضايا الأسرة. يومها تساءلت في صمت: أين ذهب أهل العلم؟ أين ذهبت النخب؟ كيف أصبح الفنانون والمشاهير مرجعيتنا في كل شيء؟
كنت أظن، لسنوات طويلة، أن الناس سيلجؤون إلى أهل التخصص عندما تشتد الأزمات، وأنه لا صوت يعلو على صوت أهل الذكر. لكن الواقع الحديث، وخاصة في العالم العربي والإسلامي، فاجأني وأربكني. كأنني أعيش في زمن تتكلم فيه «التفاهة»، ويصفق لها الجمهور، ويُسكت فيه أهل الفطنة.
في إحدى لحظات التأمل، عادت إلى ذاكرتي عبارة كنت سمعتها مرارًا في خطب الجمعة دون أن أتوقف عندها كثيرًا:
«ينطق فيها الرويبضة».
حين بحثت أكثر، وجدت الحديث الكامل:
«سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة». قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».
توقفت طويلًا عند كلمة «التافه»… ليست شتيمة، بل توصيف نفسي دقيق.
الرويبضة ليس مجرد جاهل، بل شخصية تتكلم بثقة في ما لا تفهم، وتتجرأ على ما لا تُحسن، وتتصدر في غير مكانها، وتُعجب بنفسها حد الغرور.
أليس هذا ما نراه اليوم؟
أليس هو ذاته ذلك الذي تصعد صورته في الإعلام، وتُقدَّم كرمز وفكر وحكمة، بينما كل مؤهلاته لا تتجاوز «الشعبية» أو «الشهرة»؟
قررت أن أبحث عن تفسير علمي لهذا الذي أراه. كنت أحتاج إلى فهم أعمق للآليات النفسية والاجتماعية التي جعلت من الرويبضة ظاهرة عامة، لا مجرد استثناء.
وها أنا أجد نفسي أمام ما يُعرف في علم النفس باسم «تأثير دانينغ–كروجر».
نظرية تقول إن الجاهل لا يعرف أنه جاهل، بل يظن نفسه أعلم الناس، لأنه لا يمتلك القدر الكافي من الوعي لإدراك ضعفه.
نعم! لقد وجدت المفتاح.
هذا هو الرويبضة بعينه: جاهلٌ واثق، يتكلم بلا علم، ويزداد حضورًا لأنه لا يشعر بالمسؤولية.
هذا هو الرويبضة بعينه: جاهلٌ واثق، يتكلم بلا علم، ويزداد حضورًا لأنه لا يشعر بالمسؤولية
ثم اكتشفت شيئًا آخر، أكثر خطورة: نظرية «الهوية الاجتماعية»، التي تشرح كيف أن الناس، في لحظات التيه، يبحثون عمّن يمثلهم شعبيًا لا معرفيًا. الفنان هنا يصبح صوت الناس لا لعلمه، بل لأنه «يشبههم»، أو «يتحدث بلغتهم». وهكذا تتحول الشهرة إلى شرعية، ويُقدَّم الفنان لا كصانع ترفيه، بل كقائد وناصح ومفكر.
عشت سنواتي الأخيرة وأنا أراقب كيف تغيّر المشهد. لم يعد الحضور مرتبطًا بالعلم، ولا بالكفاءة. صارت المسألة تتعلق بـ«عدد المتابعين»، و«حجم التفاعل»، و«مهارات الخطاب السريع». رأيت كيف يتحول الجهل إلى بضاعة قابلة للتسويق، فقط لأنها ترتدي عباءة الكاريزما، أو مدعومة بميزانية إنتاج ضخمة.
وبينما العلماء والمربون يغرقون في صمتهم، يُستضاف فنانون في الفضائيات للحديث عن القضايا الأخلاقية، ويُمنح مشاهير الغناء منابر للحديث عن الوعي الديني، وكأن الثقافة قد وقعت في قبضة من لا يملكون مفاتيحها.
وهنا خطر لي مفهوم آخر من علم الاجتماع: «رأس المال الرمزي» كما يسميه بيير بورديو. الشهرة أصبحت عملة، والمظهر بات شهادة، ومن يملك «الصورة» يملك «الكلمة». في هذا الزمن، لم يعد الناس يسألون: «من المتخصص؟» بل: «من المشهور؟».
السؤال يؤرقني: هل انتهى دور العلماء والمربين؟ هل سنبقى نعيش تحت سطوة الرويبضة؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها ممكنة.
علم النفس الاجتماعي يقول لنا: الناس تتبع من يملك المنبر. فلنُعد المنابر إلى أصحابها.
ويقول لنا أيضًا: الفوضى المعرفية لا تُواجه بالصراخ، بل ببناء الوعي النقدي.
لقد أصبح من الضروري أن نعلّم أبناءنا كيف يميزون بين «الشهرة» و«الشرعية»، بين «المؤثر» و«المؤهَّل»، بين «من يتكلم» و«من يحق له أن يُسمع».
نحتاج إلى إعلام مسؤول، يعيد الاعتبار للعقل والمعرفة.
نحتاج إلى مدارس تُعلّم التفكير لا الحفظ، والنقد لا التلقي السلبي.
نحتاج إلى مجتمع يعيد النظر فيمن يرفع صوته، ومن يسكت حكماؤه.
وفي لحظة صدق مع نفسي، تذكرت قول النبي ﷺ: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة».
ربما لن نمنع الرويبضة من الظهور، لكن يمكننا أن نقلل من تأثيرهم، وأن نُربّي جيلًا يعرف الفرق بين الصدى والصوت، بين الواجهة والجوهر، بين النجم الحقيقي والضوء الزائف
وبينما أرى الرويبضة في كل مكان، أتساءل:
هل نحن نعيش «ساعة» من نوع آخر؟
ساعة انهيار المعايير؟
ساعة صعود التفاهة؟
ورغم كل شيء، لا أفقد الأمل.
ففي كل زمان، هناك من يدرك، ويصبر، ويعيد بناء الوعي بهدوء.
ربما لن نمنع الرويبضة من الظهور، لكن يمكننا أن نقلل من تأثيرهم، وأن نُربّي جيلًا يعرف الفرق بين الصدى والصوت، بين الواجهة والجوهر، بين النجم الحقيقي والضوء الزائف.
