"تعالي خديني.. رنّي على حدّ ييجي ياخدني.. أمانة.. أنا بخاف من الظلام، تعالوا خدوني".
كانت هذه آخر كلمات قالتها الطفلة الفلسطينية "هند رجب" قبل أن تُسكت صوتَها وتخترق جسدَها الملائكي البريء رصاصاتُ الغدر الصهيوني!!
- إذا كان العالم قد نسي مقتل الطفل فارس عودة (14 عاماً)، الطفل الفلسطيني الذي قتله الاحتلال الإسرائيلي شرق قطاع غزة بينما كان يتصدّى بالحجارة لدبابة إسرائيلية!!
- وتغافل العالم عن مقتل الطفل خليل المغربي (11 عاماً) الذي قُتل بنيران دبابة إسرائيلية بينما كان يلعب بالكرة في ملعب يبعد عنها بنصف ميل!!
- وغضّ العالم الطرف عن مقتل الطفل "محمد الدرة" الذي مزّقت رصاصات الغدر الإسرائيلي جسده وهو يحتمي من الرصاص خلف كتلة خرسانية!!
- وتجاهل العالم مقتل الطفلة "إيمان حجو" ذات الأربعة شهور، والتي قُتلت بقذيفة إسرائيلية وهي نائمة بين ذراعي والدتها!!
- ولم يُعِر العالم اهتماماً لمقتل "يوسف أبو شعر كيرلى وأبيضانى وحلو"، حسبما وصفته والدته، والذي قُتل في غارة إسرائيلية على منزل أسرته!!
- ولم يتعاطف العالم بما يكفي مع مقتل "روح الروح" التي انتشلها جدّها من تحت الركام، بعد أن أبى الجيش الإسرائيلي إلا أن يوقف عمرها عند ثلاث سنوات!!
ورغم أن تقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن هناك طفلاً يموت كل ساعة نتيجة لوحشية وبربرية جيش الاحتلال، إلا أن مقتل الطفلة الفلسطينية "هند رجب" جاء كصرخة مدويّة تُجبر العالم على أن يسلّط الضوء على مقتل كل الأطفال الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم على يد الاحتلال الصهيوني الغاشم.
أولاً: مقتل "هند رجب"
في 29 يناير عام 2024م لقيت الطفلة الفلسطينية "هند رجب" (ست سنوات) مصرعها مع خمسة من أسرتها بعد أن علِقوا جميعاً داخل سيارة أسرتها التي تعرّضت للقصف من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في حيّ تل الهوى بمدينة غزة.
ظلّت الطفلة هند رجب على تواصل عبر الهاتف مع فريق الإسعاف والدفاع المدني الفلسطيني لأكثر من ثلاث ساعات، تستغيث وتصف ما حولها، قبل أن ينقطع الاتصال، ليتم العثور عليها بعد 12 يوماً جثةً هامدة إلى جانب أفراد أسرتها، وقد تمزّق جسدها بـ335 رصاصة أطلقتها قوات الاحتلال على جسدها الصغير، كما تم العثور على سيارة الإسعاف وقد تم قصفها ومقتل طاقمها.
وبعد تحليل المكالمة الهاتفية التي ظهر فيها صوت الطفلة "هند رجب" من قِبل صحيفة "واشنطن بوست" التي استعانت خلال التحليل بصور الأقمار الصناعية، تبيّن أن السيارة تعرّضت لـ72 طلقة من دبابة إسرائيلية خلال ست ثوانٍ فقط من وقت اتصال الطفلة بسيارة الإسعاف.
وكشف تحقيق أجرته مؤسسة "فورينزك آركيتكتشر" البريطانية أن قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت على علم بوجود أطفال داخل المركبة، وقد أُطلقت عليها أكثر من 335 رصاصة.
ثانياً: فيلم "صوت هند رجب" يُحيي قضية أطفال غزة في ضمير العالم
هند رجب واحدة من بين أكثر من 20 ألف طفل في غزة قتلهم الاحتلال الإسرائيلي قنصاً وقصفاً وحرقاً خلال عامين من حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة.
استطاع فيلم "هند رجب" الذي تم عرضه في الدورة الـ82 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بإيطاليا أن يُحوِّل القتلى من أطفال غزة من مجرد أرقام إلى واقع موثّق يحمل بصمات القاتل واسم وصوت القتيل.
تم عرض فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا يوم الأربعاء 3 سبتمبر 2025م.
ولمن لا يعرف المخرجة التونسية "كوثر بن هنية" فإنها ليست وليدة الصدفة، بل مخرجة عالمية تكمن قيمتها الحقيقية في حملها آمال وتطلعات النساء العرب، والمواطن العربي، إلى العالم بأسره. ولها أعمال شهيرة مثل "زينب تكره الثلج"، و"بنات ألفة"، و"صوت هند رجب" وغيرها. وكل هذه الأفلام لا تُعتبر مجرد أفلام سينمائية شهيرة فحسب، وإنما صرخات ورؤى توثّق أحداثاً وتفتح جراحاً لا تندمل، أملاً في بصيص من شفاء.
لقد فازت المخرجة كوثر بن هنية بعدة جوائز عالمية، منها:
- جائزة الجمهور، مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة عن فيلم «يد اللوح» عام 2014م.
- جائزة التانيت الذهبي، أيام قرطاج السينمائية 2016 عن فيلم "زينب تكره الثلج".
- وسام الاستحقاق الثقافي من رتبة فارس، تونس 2016م.
- جائزة الشرق الوثائقية بمهرجان البحر الأحمر الدورة الثالثة عن فيلم "بنات ألفة" 2023م.
- بالإضافة إلى جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدورة الـ82 عن فيلم "صوت هند رجب".
ويقوم ببطولة فيلم "صوت هند رجب" الممثل الفلسطيني معتز مليس، وكلارا خوري، وعامر حليحل، وسجى الكيلاني.
والسبب الرئيس الذي أحدث ضجة كبيرة هزّت المشاعر وخطفت القلوب هو أن الفيلم قد عرض تسجيلات صوتية حقيقية للطفلة "هند رجب" أثناء استغاثتها بسيارات الإسعاف، وعلى خلفية الاتصال كان الرصاص يغتال براءة الصوت بلا هوادة ولا رحمة.
إن فكرة الفيلم ذات الطابع الإنساني جعلت عدداً كبيراً من نجوم هوليوود ينضمّون إلى لائحة المنتجين التنفيذيين للفيلم، من بينهم: براد بيت، وخواكين فينيكس، وروني مارا، وألفونسو كوارون، وجوناثان غليزر... إلخ.
كل هذا الزخم جعل الفيلم يحظى بإقبال جماهيري غير مسبوق، فحين صعد طاقم العمل على المسرح استقبله الجمهور بالتصفيق الحاد لمدة 24 دقيقة، والتصفيق كان سيستمرّ لأطول من ذلك لولا تدخل إدارة المسرح، تعبيراً عن إعجاب الجمهور الشديد بالفيلم، وتكريماً لأرواح أطفال غزة الذين يعانون من وطأة الحرب الصهيونية منذ عامين.
ووسط الدموع وهتافات "فلسطين حرة"، وقف المنتجان التنفيذيّان (خواكين فينيكس وروني مارا) لتهنئة المخرجين وطاقم العمل، الذين رفعوا صورة الطفلة "هند رجب" خلال التصفيق الحار والتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لإبادة جماعية إسرائيلية متواصلة منذ 7 أكتوبر 2023م.
وبالنسبة لردود فعل الجمهور الغربي بصفة عامة على الفيلم، فإن غالبية الجمهور عبّروا عن عدم قدرتهم على استيعاب أن هذه القصة حدثت بالفعل وسط صمت العالم وتبلّد مشاعره، مما يجعل فيلم "صوت هند رجب" من أقوى الأفلام التي أنتجتها السينما العالمية.
وبعد مشاهدة الفيلم أعرب الجميع عن إيمانهم بأهمية السينما كسلاح لنصرة القضية الفلسطينية، وفنّد الفيلم المزاعم الإسرائيلية وروايتها الزائفة التي تروّج لها إسرائيل في دول أوروبا.
أمّا عن المخرجة التونسية كوثر بن هنية، فقد علّقت بقولها: "كان لا بد من إنتاج فيلم كهذا لأن القصص الروائية كثيراً ما تُذكّرنا بحقائق ننساها، وتُظهر لنا أحياناً عالماً مُنع من الكلام".
وبالنسبة لوالدة الطفلة الفلسطينية "هند رجب"، فإنها تحمل الجنسية المصرية إلى جانب جنسيتها الفلسطينية، وقد تابعت أصداء الفيلم من غزة، إلا أنها لم تقوَ على مشاهدة الفيلم خوفاً من استعادة الذكرى المؤلمة لرحيل ابنتها.
وفي النهاية تُوّج فيلم "صوت هند رجب" بجائزة الأسد الفضي للدورة الـ82 من مهرجان البندقية، ليثبت للعالم أن رسالة الفن أقوى من أن يهزمها البطش أو توقفها الغطرسة.
ثالثاً: مقتطفات من أقوال المخرجة التونسية وأبطال الفيلم والنقاد
علّقت المخرجة كوثر بن هنية على فوز فيلمها "صوت هند رجب" بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان فينيسيا، قائلة:
- "أهدي هذه الجائزة إلى الهلال الأحمر الفلسطيني وإلى كل أولئك الذين خاطروا بكل شيء لإنقاذ الأرواح في غزة. إنهم أبطال حقيقيون".
- "لا تستطيع السينما إعادة هند، ولا يمكنها محو الفظائع التي ارتُكبت بحقها، لا شيء يستطيع أبداً استعادة ما سُلِب، لكن السينما يمكنها الحفاظ على صوتها، وجعله يتردد عبر الحدود؛ لأن قصتها ليست وحدها، إنها للأسف قصة شعب بأكمله يعاني الإبادة الجماعية على يد نظام إسرائيلي إجرامي يتصرّف بإفلات من العقاب".
- وناشدت ضمير العالم قائلة: "والدة هند، وشقيقها الصغير إياد، لا يزالان في غزة. حياتهما لا تزال في خطر. أطالب قادة العالم بإنقاذهما. بقاؤهما على قيد الحياة ليس مسألة صدقة، إنها مسألة عدل وإنسانية، وأدنى ما يستحقانه من العالم".
- وقالت الممثلة "سجى الكيلاني" في بيان قرأته نيابة عن جميع العاملين في الفيلم: "السؤال الحقيقي هو: كيف تركنا طفلة تتوسّل من أجل الحياة؟ لا يمكن لأحد أن يعيش في سلام بينما يُجبر طفل واحد على التوسل من أجل البقاء على قيد الحياة... دعوا صوت هند رجب يتردد صداه في أنحاء العالم".
- وقالت إحدى نقّاد الفيلم: "'صوت هند رجب' ليس مجرد فيلم، إنه شهادة مؤلمة على الصرخات الأخيرة لطفلة تبلغ من العمر ست سنوات، وعلى عجز من حاول إنقاذها، وصمت عالم لم يفعل شيئاً. بلا شك، هو أهم عمل فني لعام 2025، وربما حتى للعقد بأكمله".
ومن اللافت للنظر في المهرجان أن فنانين كُثراً قد عبّروا عن دعمهم للقضية الفلسطينية بوضع دبابيس وحمل لافتات تأييد للقضية أثناء مرورهم أمام عدسات المصورين على السجادة الحمراء.
رابعاً: فعاليات وحملات التنديد بمقتل الطفلة "هند رجب"
أعلنت "مؤسسة هند رجب" ـ التي تم تأسيسها في عام 2024 ومقرها بروكسل، بلجيكا ـ عن تقديم شكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تتهم فيها الضابط الإسرائيلي (المقدم بني أهارون)، قائد اللواء المدرع 401 في الجيش الإسرائيلي، بالمسؤولية المباشرة عن قتل هند رجب وعائلتها وطاقم الإسعاف الذي حاول إنقاذها.
وفي أبريل 2024م، وضمن حملة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية ضد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، اقتحم متظاهرون وطلاب في جامعة كولومبيا في نيويورك إحدى القاعات باسم "هاملتون هول"، وهو مبنى ذو أهمية تاريخية فيما يتعلق بالتظاهرات، وسيطر المتظاهرون على المبنى وأطلقوا على القاعة الاسم الجديد "قاعة هند" تخليداً لذكرى الطفلة.
وفي الذكرى الأولى لوفاة الطفلة "هند رجب" قام متطوعون في مدينة إسطنبول التركية بعرض سيارة محطمة بها آثار رصاص ضمن فعالية لإحياء ذكرى الطفلة الفلسطينية "هند رجب".
وفي سبتمبر 2025م تم عرض فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية "كوثر بن هنية" في المسابقة الرئيسية لمهرجان البندقية السينمائي الدولي الثاني والثمانين.
وأعلن "المركز الوطني للسينما والصورة" في تونس، مؤخراً، عن ترشيح فيلم "صوت هند رجب" لتمثيل السينما التونسية في النسخة الـ98 من جوائز الأوسكار لعام 2026، عن فئة "أفضل فيلم عالمي".
أخيراً أقول:
إن الصرخة المدوّية التي حبست أنفاس العاملين في الوسط الفني لمدة 89 دقيقة ـ هي مدة الفيلم ـ قد قالت ما لم يقله حكام العرب منذ احتلال فلسطين، وغطّى صوت الصرخة على صوت آلاف الأطنان من القنابل التي ألقاها الاحتلال على غزة. ولو بقي في العالم بقايا ضمير حي لتم اعتماد فيلم "صوت هند رجب" في المحاكم الدولية والمنظمات الإنسانية ليكون شاهد إثبات على الصلف والغطرسة الصهيونية.
وأقول:
إن أصداء فيلم "صوت هند رجب" أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن السينما قادرة على أن تمنح صوتاً لكل من لا يملكون القوة أو من هم مُهمّشون، وجهاً وصوتاً.
