يعيش الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده أزمةً متصاعدة، فمنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023 – 10 أكتوبر 2025) يتعرض الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لحرب إبادةٍ ممنهجة من الاحتلال "الاسرائيلي" قاضيةً على كافة أشكال الحياة، فيما تعيش الضفة الغربية حربًا استيطانيةً اقتصاديةً تهدف لضمها لـ "دولة" الاحتلال، بالإضافة لمهاجمة المستوطنين المستمرة لمحاربة الفلسطيني من كافة النواحي، حيث بلغ عدد هجمات المستوطنين في الضفة الغربية 1680 هجومًا خلال العام 2025، وفقًا لتقرير نشره مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في 4 ديسمبر 2025.
ضغطٌ متصاعد على الشتات الفلسطيني:
يعيش الشتات الفلسطيني حملةً ممنهجةً لتقويض دوره في إبقاء القضية الفلسطينية حاضرة من خلال بقاء الشعب في المخيمات المنتشرة في العديد من الدول العربية، حيث عملت الجمهورية اللبنانية على تضييق سبل العيش في المخيمات الموجودة لديها من خلال إغلاق بعض الطرق المؤدية لأسواق المخيمات، في خطوةٍ تهدف للمحاربة الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي لخطواتٍ تصعيدية من الشعب الفلسطيني في الشتات.
الاستخبارات الاجتماعية مقابل العسكرية:
بالإضافة لذلك، تعتبر الاستخبارات المتخصصة بدراسة حالة المجتمعات والتغيرات بداخلها بالغة التعقيد، فيما يعتبر مجال الاستخبارات الباحث في الجوانب العسكرية أقل تعقيدًا، حيث تعنى الاستخبارات الاجتماعية بالبحث في نوايا الخصم، وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها تخفق في كثيرٍ من الأحيان، لعدم قدرتها على التغلغل في الشارع المستهدف بالشكل الصحيح.
بعض إخفاقات الاستخبارات "الإسرائيلية":
أولًا: فشل التنبؤ بانتفاضة الحجارة (1987):
أخفقت أجهزة الاستخبارات والأمن القومي "الاسرائيلية" في التنبؤ بانتفاضة الحجارة عام 1987، التي نعيش رحى ذكراها ال38، حيث كانت تركز على إجراء مسح دقيق للقيادة الفلسطينية المتمثلة آنذاك بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعيش في المنفى في الجمهورية التونسية، متجاهلةً خطر الشعب الفلسطيني الذي كان يعيش بين مطرقة فشل المنظمة التي لم تصل لحد التوقعات الفلسطينية في تحقيق تطلعات الشعب، وسندان الاحتلال العامل على المحاربة الاقتصادية والظروف المعيشية القاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
ثانيًا: فشل التنبؤ باكتساح حماس في انتخابات 2006:
ومن الإخفاقات البارزة أيضًا، إخفاق الأجهزة ذاتها في التنبؤ باكتساح حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية التشريعية في العام 2006، حيث تلخصت جميع أوراق تقدير الموقف الصادرة عن شعبة الأبحاث في جهاز (أمان)، بأن ما ينتظر المجتمع الفلسطيني نتيجةً تعادلية بين حماس وفتح في الانتخابات، فيما يمكن أن تفوز حركة حماس بنسبة ضئيلة، لتتفاجئ (أمان) باكتساح حماس للانتخابات.
ثالثًا: فشل قراءة الربيع العربي:
إلى جانب الإخفاقين السابقين، يعتبر الفشل في التنبؤ باندلاع ثورات الربيع العربي مع بداية العقد الماضي فشلًا ذريعًا لا يمكن التهاون معه، خصوصًا أنه لم يخلص لنتيجةٍ تتلخص بإمكانية اندلاع ثورة في جمهورية مصر العربية، والتي كان يمثل فيها الرئيس السابق حسني مبارك رجل الأمن الحامي ل "اسرائيل"، خصوصًا مع سيطرته الأمنية على مصر قرابة ثلاثة عقود متتالية دون ثوراتٍ تعرض أمن "اسرائيل" للخطر.
وقد أورد الجنرال (آفي كوخافي) في ظهوره الأول أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست "الاسرائيلي" بتاريخ 25 يناير 2011، وبعد تعيينه مديرًا لشعبة (أمان) العسكرية قبل اندلاع ثورات الربيع العربي بأسابيع قليلة، بأن استقرار الحكومة المصرية لا يعتبر في خطر، على الرغم من بدء الاحتجاجات والمظاهرات المدنية في العديد من البلدان العربية خصوصًا مصر.
حيث اعتبر الأمن "الاسرائيلي" الإخفاق في التنبؤ بثورات الربيع العربي خطرًا كبيرًا يداهم الوجود "الاسرائيلي"، خصوصًا مع تصاعد الدعوات خلال الثورة المصرية على سبيل المثال لا الحصر لدراسة إمكانية إلغاء اتفاق السلام مع "اسرائيل"، بالتزامن مع صعود الاسلام السياسي على سدة الحكم في العديد من البلدان أيضًا.
البيئة الحالية وإمكانية اندلاع انتفاضة جديدة:
وبنظرةٍ شاملة للأحداث السابقة، ومع تمادي الاحتلال في سياسته الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، وإمعانه في جرائم الحرب التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني، وسياسته التمددية نحو دمشق، فإنه يبقى من الممكن اندلاع انتفاضة فلسطينية عارمة في الضفة الغربية دون سابق إنذارٍ من الأجهزة الأمنية "الاسرائيلية"، خصوصًا في ظل انشغالها على العديد من الجبهات، فلم تهدأ جبهة غزة بالشكل الذي يؤكد ضعف المقاومة الفلسطينية، كما لم يتعرض حزب الله للسحقكما يدعي البعض، بل يحاول إعادة ترميم قدراته العسكرية والأمنية بكافة الطرق.
غير أن الجبهة اليمنية التي يعتبرها البعض جبهةً صامتةً في الوقت الحالي لا يمكن التغاضي عنها، حيث تعتبر منطقة جهد استخباري ضخم بالنسبة للاحتلال "الاسرائيلي" بعد تعرضه لضربات خلقت تحديًا كبيرًا خلال الحرب الأخيرة، مما يشتت من جهوده وإشغاله على جبهاتٍ متعددة، كما أن اعتماد الاحتلال المفرط على التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، يجعله في خطرٍ دائمٍ لعدم قدرته على اختراق الشعب الفلسطيني بشكلٍ حقيقي، وإنما اقتصار عمله على قراءة الشارع الفلسطيني من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل التي لا تعتبر كافية لتحليل الشارع بالشكل الصحيح.
لنستنتج أن قضية التنبؤ باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة أمرٌ لا يمكن الجزم فيه، لكنه خيارٌ يبقى حاضرًا في أي وقت، خصوصًا في ظل الوقت الحالي الذي وصل الفلسطيني فيه للقناعة التي أدت لخروجه في الانتفاضة الأولى، والتي تتلخص بعدم امتلاكه لشيءٍ يخسره، نتيجة تعرضه للعديد من الضغوطات التي لا يمكن التهاون معها.
هشاشة السلطة الفلسطينية كعامل تفجيري محتمل:
يعتبر ضعف السلطة الفلسطينية، ومحاولاتها المتكررة في السيطرة على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بواسطة القوة المفرطة، وتحويل المناطق التي تسيطر عليها إلى مناطق بوليسية، وزرع عصاباتٍ تنشر القلاقل في قطاع غزة بالاشتراك مع الاحتلال، تجعل من الشعب الفلسطيني كتلة لهبٍ يمكن أن تتدحرج في وقتٍ لا يعتقده أبرز المحللين السياسيين والأمنيين والعسكريين على حدٍ سواء، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك عدم قدرة الاستخبارات "الاسرائيلية" على تحديد موعد اندلاع الثورة الإيرانية، بالإضافة لمثال هَبّة باب الرحمة في المسجد الأقصى التي بدأت في العام 2019، بتغيير أحد جنود شرطة الاحتلال لقفلٍ حديديٍ على باب الرحمة، ما فجر مخزون الصبر الاستراتيجي لدى الفلسطيني في وجه الاحتلال.
معلومات الموضوع
الوسوم
مراجع ومصادر
- حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية
