كيف تبقى الحركات الإسلامية حيّة حين تتلاشى الهياكل؟

الرئيسية » بصائر تربوية » كيف تبقى الحركات الإسلامية حيّة حين تتلاشى الهياكل؟
تنظيم سري

تتكرر في لحظات التحول الكبرى حقيقة شديدة البساطة، لكنها شديدة العمق في آن واحد: المشاريع الكبرى لا تبدأ بالجماعات، بل تبدأ بالإنسان الفرد؛ الإنسان الذي يعيد تعريف نفسه في ضوء قيم عليا، ويرى في وجوده تكليفًا قبل أن يراه موقعًا، ويحوّل إيمانه إلى طاقة حركة لا تجربة روحية منقطعة عن الواقع. هذا الفرد هو أصغر وحدة في مشروع النهضة، لكنه أثقل لبنة فيها.

في عالم يتزايد فيه الحديث عن المؤسسات والسياسات والبرامج الضخمة، يندر الالتفات إلى هذا السؤال المؤسِّس: من هو الإنسان الذي سيحمل النهضة؟ كل مؤسسة تتعرض للضغط تنهار عند أول عاصفة إن لم يكن أعضاؤها يملكون هذا العمق الداخلي، وكل حركة تُحاصر سرعان ما يتساقط ظاهرها إذا لم يكن باطنها معبّأ بوعي قادر على الحياة دون ضجيج.

الفرد… من عضو وظيفي إلى حامل للمشروع

الإنسان المؤمن الذي نتحدث عنه ليس ذلك العضو الذي يندمج في التنظيم ليأخذ شكله، بل ذلك العقل وتلك الروح اللذان يندمجان في الفكرة ليمنحا التنظيم شكله من جديد. الفارق هنا جوهري؛ لأن الحركة التي تُربي أفرادًا يعتمدون على وجودها هي حركة معلّقة في الهواء، أما الحركة التي تُنشئ أفرادًا قادرين على حملها، فهي حركة تمتلك جذورًا لا يمكن اقتلاعها.

هذا الفرد لا يدخل المشروع ليكمل عدده؛ بل يدخل ليضيف معنى. هو ليس تابعًا يتلقى تعليمات، بل صانع مبادرة يستخرج من قيم المشروع ما يلائم واقعه، ويعيد تحويل الفكرة إلى فعل دون الحاجة إلى ضوء فوق رأسه أو مؤسسة تحيطه بالرعاية الدائمة.

وحين يصبح الإنسان بهذا المستوى من الوعي، يتغير موقعه داخل الحركة: لا يعود “حاضرًا اسميًا”، بل “قوة خاملة قابلة للاشتعال”، لا تحتاج إلا فرصة صغيرة لتقدّم أثرًا كبيرًا. ومثل هؤلاء تُقاس بهم قيمة الحركات، لا بحجم هياكلها ولا بعدد أنصارها.

الحركة التي تُربي أفرادًا يعتمدون على وجودها هي حركة معلّقة في الهواء، أما الحركة التي تُنشئ أفرادًا قادرين على حملها، فهي حركة تمتلك جذورًا لا يمكن اقتلاعه

التضييق كاشف للحركات، ومعيد تشكّل للفرد

حين تدخل الحركات الإسلامية الإصلاحية في مرحلة حظر أو تضييق سياسي وأمني، تنكشف طبقاتها الداخلية: أيّ الأفراد يملك القدرة على الاستمرار ولو اختفت كل صور التنظيم؟ أيهم قادر على إعادة إنتاج ذاته بعيدًا عن دعم المؤسسة؟ وأيهم كان وجوده مرهونًا بوجود الشكل الرسمي للحركة؟

هذه اللحظات ليست اختبارات أمنية فحسب، بل اختبارات وجودية. التنظيم يمكن إغلاقه، لكن الإنسان إذا كان مشروعًا قائمًا بذاته لا يمكن إغلاقه. وهنا تكمن نقطة المفصل: هل ربّت الحركة أفرادًا يقومون بوظائف… أم ربّت أفرادًا يحملون الفكرة؟

الفارق يظهر بوضوح حين تضيق الساحات: الموظف التنظيمي ينهار لأنه فقد منصته، أما الإنسان المؤمن فيتحول إلى منصة تمشي على قدمين.

التنظيم يمكن إغلاقه، لكن الإنسان إذا كان مشروعًا قائمًا بذاته لا يمكن إغلاقه

شبكات صغيرة… وهياكل خفيفة

التضييق لا يضرب قوة الحركة، بل يضرب وزنها. الهياكل الثقيلة أكثر عرضة للانكشاف، بينما الشبكات الصغيرة المتينة تبقى حية وموزعة يصعب محاصرتها. وعند دمج هذا المنظور مع مركزية الفرد يتشكل نموذج جديد للعمل: الحركة لا تصبح مجموعة مؤسسية، بل شبكة من الأفراد القادرين على المبادرة، المرتبطين بقيم واحدة دون هرمية خانقة.

ومثل هذا النموذج يمنح الحركات مرونة استثنائية؛ فهي لا تواجه الضربة بضربة، بل تواجهها بتوزيع الثقل، بحيث لا يؤدي سقوط نقطة واحدة إلى شلل عام. هذه “الهندسة الخفيفة” ليست تراجعًا عن التنظيم، بل إعادة تعريف له بما يتناسب مع العصر والبيئة القانونية والسياسية.

إعادة صياغة الخطاب… من المواجهة إلى الحكمة

الحظر يفرض على الحركة أن تعيد النظر في لغتها. لا يعني ذلك التخلي عن القيم ولا إخفاء الهوية، بل يعني مخاطبة العالم بلغة يفهمها، وتقديم المشروع في قالب إنساني مجتمعي، لا ككيان سياسي ذي طموحات سلطوية. والإنسان الفرد -لا المؤسسة- هو أفضل رسول لهذا الخطاب الجديد؛ لأن أثره لا يمر عبر البيانات، بل عبر السلوك والمعاملة والمبادرة الخفية الصغيرة التي تبني الثقة في المجتمع وتعيد ترميم الصورة بعيدًا عن الصخب.

التربية الداخلية… قلب المقاومة الهادئة

العمل التنظيمي في زمن الحظر لا يمكن أن يعتمد على قاعات وجلسات وهياكل تدريبية ظاهرة. وإذا كانت التربية سابقًا تُفهم بوصفها نسقًا جماعيًا، فهي اليوم تتحول إلى سيرورة فردية: وعي سياسي ناضج، انضباط ذاتي، ذكاء اجتماعي، مهارة في تقدير الواقع، قدرة على العمل تحت الضغط، ومرونة في فهم دوائر الحركة والمجتمع.

الفرد هنا يتربى على أن يكون “منظمة ذاتية” قادرة على إدارة نفسها بنفسها، وعلى تطوير نفسها دون حاجة إلى إشراف مستمر. ومثل هذا الإنسان هو الذي يصنع الفرق في البيئات الخطرة، لأن قوة الحركة لا تُقاس بعدد من حضروا جلساتها، بل بعدد من استطاعوا حملها على أكتافهم حين أغلقت أبوابها.

الفرد هنا يتربى على أن يكون “منظمة ذاتية” قادرة على إدارة نفسها بنفسها، وعلى تطوير نفسها دون حاجة إلى إشراف مستمر. ومثل هذا الإنسان هو الذي يصنع الفرق في البيئات الخطرة

المبادرات الفردية… الشكل العملي الجديد للحركة

في زمن الانفتاح كان التنظيم هو من ينتج المبادرة والفرد يتلقى. في زمن التضييق يتبدل الدور: يصبح الفرد هو المنتج الأول، والتنظيم—إن وجد—يتحول إلى موجّه عام. هذا التحول ليس اضطرارًا فقط، بل نضج؛ لأنه يعيد توزيع الإبداع على الأفراد بدل احتباسه في مركز واحد.

القيمة هنا أن كل فرد يصبح مشروعًا صغيرًا يتحرك في الظلال، يقدم خيرًا، يصنع وعيًا، ويخدم قضية دون أن ينتظر إشارة. هذه اللامركزية الأخلاقية والعملية تمنح الحركات قدرة على الاستمرار حتى عندما تتعرض لضربات عنيفة؛ فالمبادرة توزّع الحياة في جسد الحركة بدل تجمعها في رأس واحد يمكن قطعه.

ختاما.. إذا أردنا فهم قدرة الحركات الإصلاحية على البقاء، فليس علينا النظر إلى هياكلها، بل إلى الإنسان الذي تربّيه. فالحظر يسقط المؤسسات، لكنه لا يسقط الفكرة إذا حملها فرد ناضج، واضح، صبور، قادر على أن يكون دعوة تمشي على الأرض.

بهذا المعنى، الفرد ليس وحدة في التنظيم… بل التنظيم نفسه في لحظة الخطر. ومستقبل الحركات الإسلامية لن يقاس بحجم ما تتعرض له من تضييق، بل بحجم ما تملكه من أفراد يستطيعون حمل قيمها حتى لو سقطت كل أوراقها العلنية.

فالنهضة تبدأ من الإنسان، وتجدد نفسها به، وتستمر ما دام هناك قلب واحد يدرك أن الفكرة التي تسكنه أكبر من أن تُحظر.

 

شاهد أيضاً

لماذا يعطل الإنسان عقله؟ الغباء كظاهرة نفسية واجتماعية

الغباء، في صورته اليومية، يثير السخرية أحيانًا، والشفقة أحيانًا، والغضب في كثير من الأحيان. لكن …