هل الشهوة سيئة أم حسنة؟

الرئيسية » خواطر تربوية » هل الشهوة سيئة أم حسنة؟
question81

الشهوة بحدّ ذاتها غريزة لازمة في خِلقة الإنسان، مركّبة في تكوينه، وضرورية لبقائه البشري السَّوي، ومقصودة لحكمة اختباره. وأما ما يُوصَف بالحُسن أو السوء فهو تقديرها من حيث فهمها على وجهها، دون تهويلٍ مروّع كوحش كاسر لا سبيل لملك زمامه، ودون تهوينٍ مريع كأنها نسمةُ صيفٍ بريئةٌ عابرة!

وفي لسان العرب: «شَهِيَ الشيءَ وشهّاه يشهاه شهوةً واشتهاه وتشهّاه: أحبّه ورغب فيه». وفي قاموس أكسفورد الإنجليزي: «رغبةٌ قوية في شيء أو شدةُ التمتّع بشيء». فالشهوة بصفة عامة هي اشتياق النفس لأمر وتوقانها لذوقه والتلذّذ به. وعليه فأي أمر حسّي أو معنوي يُتاق إليه ويُشتاق له يمكن أن تصدق عليه تسمية الشهوة بالنسبة لمشتهيه: فمن الناس من شهوته في طلب العلم وسعة المعرفة والألق الفكري، ومنهم من يشتهي نفوذ السلطة أو كثرة الشراء وإحساس التملّك… إلى آخر مناطات الاشتهاء.

وتقوم الشهوة على تفاعل شقّين: معنوي ومادي، بهما معًا يكتمل الشعور باللذة المبتغاة. فالمرء يشتهي الحالة الشعورية المعنوية المرافقة للسلوك الفيزيائي الذي تمارسه إحدى الحواس الخمس أو أكثر: نظرًا أو سماعًا أو تذوقًا أو شمًّا أو لمسًا، ويشتهي بالمثل ممارسة السلوك الفيزيائي الذي يستثير فيه تلك الحالة الشعورية المرغوبة.

وتأمّل في قول المصطفى ﷺ: «لم نَرَ للمُتحابَّيْن مثلَ النكاح» [رواه ابن ماجه وغيره]. فشعور الحب لا يرويه المعنى فحسب، ولا يكتفي بالمجرّد من حيث الأصل مهما بدا غير ذلك في البداية. بل إن امتناع الوصال الحسّي بمختلف درجاته من أشدّ ما يؤجّج فتيل نار الشوق واللهفة والتباريح بين المتحابين المتباعدين في الغالب. فالحب يضمن تحقق مقاصد النكاح وتمام متعته، ويعين على القيام بمسؤولياته طواعية؛ والزواج يقوّي أواصر الحب ويصونه بما يتيحه من إرواء حسّي يحتاج إليه ذلك الحب ليكتمل نموّه ويتمّ حضوره.

وأما ما يُوصَف بالحسن والسوء فهو منهج معاملتها: من حيث تهييج دواعيها وكيفية تصريفها حين تفور. وتأمّل في هذا الحديث الشريف:

«إنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدقة، وكلِّ تكبيرةٍ صدقة، وكلِّ تحميدةٍ صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة».
قالوا: يا رسولَ الله، أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
فقال ﷺ: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟»
قالوا: نعم.
قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [رواه مسلم].

وجاء في شرح النووي على مسلم: «وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات؛ فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعًا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهمّ به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة».

وتأمل هذه الواقعة التي تقرّر سلطان الشهوة الجاري على البشر كافة:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرجْنا مع رسولِ اللهِ ﷺ في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبياً من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدّت علينا العزوبة، وأحببْنا العزل. فأردْنا أن نعزل ورسول الله ﷺ بين أظهرنا قبل أن نسأله! فسألناه عن ذلك، فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة». [متفق عليه].

تأمّل فاء الترتيب: اشتهوا ما أحلّ الله لهم بعد أن صار مِلك يمينهم، واشتدّت عليهم العزوبة بعد أن تهيّجت الدواعي وحضرت المؤثرات بإصابة السبي. والدرس المستفاد: ضرورة الإقرار بحقيقة سلطان الشهوة لتقديرها حقّ قدرها، بالاحتراز من مهيّجاتها وسدّ ذرائعها، وحكمة التعامل معها حين تفور. أما الاحتجاج بسلطان الشهوة لتصريفها على غير وجهها المشروع فأمر آخر غير مقبول، ولا يعفي من الإثم المترتب حال المخالفة.

وتأمّل قوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا} [النساء: 27]. وجاء في التحرير والتنوير لابن عاشور: «وأراد بالذين يتبعون الشهوات الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم من الذين لا دين لهم، وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها، ولكنهم يرضون شهواتهم الداعية إليها… والمراد تنبيه المسلمين إلى دخائل أعدائهم؛ ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق ومراد أعوان الشياطين».

فالصالحون من السلف والخلف لم يكونوا منزوعة شهواتهم فانصلحوا، بل لأنهم وضعوها في الحلال أو صبروا عن الحرام.

ويقول الغزالي في كيمياء السعادة: «تمام السعادة مبنيّ على ثلاثة أشياء: قوة ال. غضب، وقوة الشهوة، وقوة العلم. فيحتاج أن يكون أمرها متوسطًا لئلا تزيد قوة الشهوة فتخرجه إلى الرخص فيهلك، أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الجموح فيهلك. فإذا توسّطت القوتان بإشارة قوة العلم دلّ على طريق الهداية… وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور، وإن نقصت كان العجز والفتور، وإن توسّطت كان العفة والقناعة…».

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

سيكولوجية الرويبضة

لا أدري متى بالضبط بدأ هذا القلق يتسلل إلى داخلي. ربما حين رأيت أحد الممثلين …