أحدث التطور التكنولوجي تحوّلًا جذريًا في طرائق القراءة، إذ لم تعد مقتصرة على الكتاب الورقي، بل أصبحت الشاشات الرقمية ـ من هواتف ذكية وأجهزة لوحية وقارئات إلكترونية ـ منافسًا قويًا له. وأمام هذا التحول، يثار تساؤل جوهري: هل القراءة الورقية أفضل من القراءة الإلكترونية، أم أن لكل منهما مزاياه وحدوده؟
أولًا: تفوّق القراءة الورقية من منظور معرفي
تشير أبحاث علم النفس المعرفي وعلوم الدماغ إلى أن القراءة من الورق تساعد على فهم النصوص وتذكرها بصورة أفضل مقارنة بالقراءة من الشاشة. فالدماغ البشري لا يتعامل مع النص بوصفه مجرد كلمات، بل يبني له خريطة ذهنية مرتبطة بالمكان والشكل والحجم. والكتاب الورقي، بصفحتَيه اليمنى واليسرى وسماكته الملموسة، يوفّر معالم مكانية واضحة تساعد القارئ على استرجاع المعلومات لاحقًا.
وتبيّن الدراسات أن القارئ غالبًا ما يتذكر موضع الفكرة في الصفحة أو الفصل، وهو أمر يصعب تحقيقه في النصوص الرقمية التي تعتمد على التمرير، حيث تختفي الصفحات فور الانتقال منها، مما يضعف الإحساس ببنية النص وتسلسله المنطقي. وقد خلصت معظم الأبحاث منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى أن القراءة من الورق تؤدي إلى فهم أعمق وقدرة أعلى على التذكر، لا سيما عند التعامل مع النصوص الطويلة والمعقدة.
ثانيًا: الجهد الذهني وإجهاد العين
تفرض القراءة الإلكترونية عبئًا معرفيًا وجسديًا إضافيًا. فالشاشات، بخاصة المضيئة ذاتيًا، تسلّط الضوء مباشرة على العين، مما قد يسبب إجهادًا بصريًا وصداعًا عند القراءة المطوّلة. كما أن التفاعل المستمر مع الشاشة (التمرير، النقر، البحث) يستهلك جزءًا من موارد الانتباه، فيقلّ المتاح منها لفهم المحتوى نفسه.
وقد أظهرت دراسات تجريبية أن القرّاء على الشاشات غالبًا ما ينجزون القراءة بسرعة أكبر، لكن على حساب العمق، إذ يميلون إلى المسح السريع بدل القراءة المتأنية، ويقضون وقتًا أطول في التنقل داخل النص بدل استيعابه.
ثالثًا: القراءة الإلكترونية ومزاياها العملية
على الرغم من تفوّق الورق في جوانب الفهم والتذكر، فإن القراءة الإلكترونية تمتلك مزايا لا يمكن إنكارها. فهي تتيح الوصول السريع إلى كمّ هائل من المعلومات، وتمكّن القارئ من البحث الفوري عن الكلمات والمفاهيم، وتسمح بتعديل حجم الخط والإضاءة، وهو ما يعدّ ميزة مهمة لذوي ضعف البصر.
كما أن القراءة الرقمية أكثر ملاءمة في سياقات العمل السريع والبحث المرجعي، حيث يكون الهدف هو استخراج المعلومة لا التعمق في بنية النص. وتشير دراسات حديثة إلى أن الفروق بين الورق والشاشة قد تتضاءل عندما يضطر القارئ إلى القراءة في وقت محدود، إذ يصبح الأداء متقاربًا في الحالتين.
رابعًا: أثر الوسيط في الأطفال والمتعلمين
تكتسب المقارنة بين الورقي والإلكتروني أهمية أكبر عند الأطفال. فقد أظهرت دراسات تربوية أن الأطفال الذين تُقرأ لهم القصص من كتب ورقية يحققون فهمًا أفضل لتسلسل الأحداث مقارنة بأولئك الذين يتعاملون مع كتب إلكترونية تفاعلية مليئة بالمؤثرات البصرية والصوتية. إذ تؤدي هذه المؤثرات إلى تشتيت الانتباه وتحويل التركيز من القصة إلى الجهاز نفسه.
يتبيّن مما سبق أن السؤال: هل القراءة الورقية أفضل أم الإلكترونية ليست له إجابة مطلقة. فالقراءة الورقية ما تزال تتفوّق عندما يكون الهدف الفهم العميق، والتأمل، وبناء المعرفة طويلة الأمد، في حين تتميز القراءة الإلكترونية بالسرعة والمرونة وسهولة الوصول. ومن ثمّ فإن الخيار الأمثل لا يكمن في المفاضلة الإقصائية بين الوسيطين، بل في توظيف كل منهما وفق الغاية المرجوّة، مع الحفاظ على القراءة الورقية بوصفها ركيزة أساسية في التعلم والثقافة.
