قالوا في القديم: إن الحكيم يُكنّى أبا العيون...
وهم يعنون: أن الحكيم لا بد أن ينظر للأمر من جميع جوانبه، وكأنه ينظر بأكثر من عين، لا بعين واحدة. فيجب عليه أن لا تغفل عنه أي غافلة.
وفي قضيتنا الراهنة، قضية القضايا، قضية الحرب على إخواننا في غزة والضفة وفلسطين كلها... في قضيتنا هذه، نهتف بإخواننا هناك في أرض فلسطين: إن الحكيم أيها الإخوة الكرام يُكنّى أبا العيون... فلا بد أيها الإخوة أن تنظروا إلى قضيتكم الراهنة بكافة أبعادها، وأن ننظر معكم كذلك...
هذه الحرب التي نحن بصددها ليست كأي حرب، ويبدو أنها ستكون الأخيرة في تاريخ ذلك الصراع، ويستلزم ذلك أن تطول أكثر. فإن لم تكن الأخيرة، فستكون قبل الأخيرة، وسيكون لها ما بعدها حتى تأتي الأخيرة، أو ينهار هذا الكيان الصهيوني اللقيط من تلقاء نفسه، بفعل الاختلافات بين أطيافه.
لا أمل في العرب ولا في المسلمين من حولكم، ولم يكن الأمل فيهم يومًا، إلا ما كان في حركتهم الإسلامية، التي كانت بالنسبة لهم كالقلب النابض، وقد استطاعت الأنظمة الحاكمة أن تُجهز على الحركة الإسلامية بعد الربيع العربي، في ذلك الخريف المشؤوم، الذي أتى على الأخضر واليابس. فلا تنتظروا حركة من أمة ميتة، توقف قلبها النابض، وأصبحت جثة هامدة، لا حراك فيها ولا نبض.
الحرب عليكم، وعلى غزة خاصة، هي حرب عالمية، تُحارب فيها المقاومةُ الإسلامية إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والأنظمة الحاكمة العربية الإقليمية. والحرب العالمية قد كانت تحتاج لانتفاضة عربية وإسلامية عالمية، لكن الموتة العربية والإسلامية كبيرة، والخذلان كبير.
لا أحد وقف في هذه الحرب على قدر الحدث، لا العالم الذي كنا نظن فيه بقية إنسانية ستأبى أن تسكت، ولا الجماهير العربية والإسلامية التي كنا نظن فيها بقية نخوة ستأبى أن تسكت، ولا الحركات الإسلامية التي كنا نظن فيها بقية حياة ستأبى أن تسكت.
هذه الحرب هي لحظة تاريخية فارقة، وقد كان الواجب على جميع الفلسطينيين، في غزة والضفة والداخل الفلسطيني أن يستغلوها، وأن ينتفضوا جميعًا، ليشعلوا الأرض كلها من تحت أقدام العدو المحتل، فلعلها تكون اللحظة النهائية.
وإننا في مغالبة أعدائنا نحاول متربصين أن نغتنم اللحظات التاريخية الفاصلة في تاريخ الصراع، وليس بعد هذه اللحظة التي نحن بصددها لحظة أخرى ستكون مثلها، لا في حجم الحرب ولا في حجم المؤامرة ولا في حجم التضحيات.
اللهم إلا حربًا عالمية كبرى، تذهب فيها كل الأنظمة العالمية الطاغية إلى الجحيم، ليبقى بعدها ذلك الكيان اللقيط وحده، وليس أحدٌ بيننا وبينه، لنغدو عليه في عطفة واحدة، فلا نبقي منه ولا نذر.
لكن الواجب على الحكماء أن لا يُعلقوا أنفسهم بالآمال التي هي في النهاية في عالم الغيب، والتي ربما تكون وربما لا تكون. الواجب على الحكماء أن يبنوا على الواقع، وأن يستغلوه، بلحظاته التاريخية الفاصلة.
فهناك من ينتظرون ليحركهم التاريخ بحركته الذاتية المحتومة، وهناك من يُغالبون التاريخ، ويصنعونه، فيعجلون من حركته، أو يغيرونها بالكلية. وكم تغير وجه التاريخ على مدار الحياة، وتحول فعله، وتبدلت نتائجه، بفعل أولئك الذين يصنعون التاريخ ولا يستسلمون له.
هناك من ينتظرون ليحركهم التاريخ بحركته الذاتية المحتومة، وهناك من يُغالبون التاريخ ويصنعونه، فيغيرون نتائجه
يبدو أن العدو الصهيوني لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي إلا بانتهاء المقاومة، وانتهاء المشروع الفلسطيني للتحرر كله. وقد كان الواجب في المقابل، أن يكون توجه الفلسطينيين أن لا تنتهي هذه الحرب إلا بنهاية الكيان الصهيوني المحتل نهاية كاملة، أو على الأقل بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م.
على أهل الضفة والداخل الفلسطيني أن يهبوا في انتفاضة شاملة، في فعل ثوري يومي، لا ينتهي إلا بانتهاء الحرب على غزة، وبأخذ الحقوق كاملة، أو حتى بأخذها في حدودها الدنيا التي نادى العالم كله بها.
قادة المقاومة في غزة، ما أقدموا على ما أقدموا عليه إلا غضبة لتدنيس المسجد الأقصى من العدو الصهيوني في كل يوم، وللاضطهاد الذي يُمارس على أهل الضفة في كل يوم أيضًا.
قد كان من الممكن أن تكتفي المقاومة في غزة بما حققته سابقًا من تحرير غزة كلها تحريرًا كاملًا، وأن تترك قضية القدس والضفة لأهل الضفة. لكنه التراب الفلسطيني الواحد، والمقدس الواحد، والمشروع الفلسطيني الواحد، الذي لا يجب أن ينساه أحدٌ من أبناء فلسطين، ولا يجب أن يقعد عن العمل له أحدٌ. ويجب أن يكون الجميع على مستوى الحدث، ومستوى الحدث يستدعي انتفاضة عامة، ليست كسابقاتها، بل انتفاضة التحرير والانتصار، وتضحيات التحرير والانتصار.
قد كان من الممكن أن تكتفي المقاومة في غزة بما حققته سابقًا من تحرير غزة كلها تحريرًا كاملًا، وأن تترك قضية القدس والضفة لأهل الضفة. لكنه التراب الفلسطيني الواحد، والمقدس الواحد، والمشروع الفلسطيني الواحد، الذي لا يجب أن ينساه أحدٌ من أبناء فلسطين، ولا يجب أن يقعد عن العمل له أحد
لكل قضية أهلها، وأهل قضية فلسطين هم أهل فلسطين أولًا، ثم يأتي العرب والمسلمون من بعدهم. فإن تخلى العرب والمسلمون، فليس لأهل فلسطين أن يتخلوا.
ذلك هو قدرهم، وهذه هي الملحمة التي كتبها الله عليهم، كالملحمة التي كتبها الله على بني إسرائيل.
ملحمة الإيمان والصدق والجهاد لأهل فلسطين؛ أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وملحمة الكفر والكذب والفساد في الأرض لبني إسرائيل ومن والاهم من صهاينة النصارى، وصهاينة العرب والمسلمين!
