“آرون بوشنل” و “راشيل كوري” وجهان لعملة إنسانية واحدة (1-2)

الرئيسية » بأقلامكم » “آرون بوشنل” و “راشيل كوري” وجهان لعملة إنسانية واحدة (1-2)
rachel-palestine

بالرغم من اتساع مجالات الأخلاق وتشعّب فروعها، إلا أنه يمكننا حصرها في قسمين أساسيين، وهما:

1- الأخلاق الإسلامية: وهي أخلاق الشرع التي يقوم بها المسلم تعبّدًا لله تعالى مخلصًا، خشية عقابه وطمعًا في ثوابه، ولا يتحلّى بكل ذلك إلا المسلم، وأثر عمله يمتد إلى يوم القيامة.

2- الأخلاق الإنسانية: وهي كل صنيع حسن أو خُلق قويم يفعله الإنسان صاحب الفطرة السويّة بغض النظر عن ديانته ومعتقداته، وللإنسان في ذلك دوافع ومبررات حسب ما يعتنقه من فكر وقناعات، وحسب العادات والتقاليد والضوابط المجتمعية التي تربّى عليها، والجزاء على عمله ينتهي بوفاته.

توطئة

إن النفس البشرية السويّة تحرّكها الأحداث الجسام وتتفاعل معها بغض النظر عمّا تعتنقه من ديانة.

والنفس البشرية السويّة تزن الأمور بميزان الفطرة المجرّدة التي لا تحابي أحدًا.

خير دليل على ذلك قيام المشركين بتأسيس حلف الفضول قبل البعثة، وكان هذا الحلف بين عدد كبير من قبائل قريش في مكة المكرمة، حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يُظلم أحد في مكة إلا ردّوا ظلامته).

وخير دليل على ذلك أيضًا ما قام به بعض المشركين في مكة حين نقضوا الصحيفة التي بمقتضاها حوصِر المسلمون في شِعْب أبي طالب حتى أكلوا ورق الشجر، وحتى ربطوا على بطونهم الحجر.

هكذا هي الفطرة الإنسانية السويّة: تأبى الظلم وتثور عليه، ولا يهدأ لها بال حتى تنصر المظلوم وتقيم العدل، ويكون الناس في الحقوق والواجبات سواء، مهما كلفها ذلك من تضحيات!!

أولًا: الطيّار الأمريكي "آرون بوشنل" يُضرم النار في نفسه نصرة للمحاصَرين في غزة

إن ما يحدث في غزة تنخلع له قلوب شرفاء العالم، وهم يشعرون أنهم لا حيلة لهم أمام هذا الوضع المزري، مما يجعل بعضهم يُصاب بلوثة في عقله، أو أزمة تودي بحياته، أو يُقدِم على فعل شيء تُزهق فيه روحه.

إن الطيار الأمريكي "آرون بوشنل"، الذي كان يبلغ من العمر 25 عامًا، والحاصل على درجة البكالوريوس في هندسة البرمجيات، والحاصل على شهادة في الأمن السيبراني في سبتمبر 2020م، قد قام يوم الأحد الموافق 25 فبراير 2024م بإشعال النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية بواشنطن، اعتراضًا منه على ما يحدث من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

ظهر الطيار الأمريكي "آرون بوشنل" في فيديو وهو يُضرم النار في نفسه، ويقول فيه إنه لا يريد أن يكون متواطئًا في الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وصرخ وهو يحترق: "فلسطين حرة"، إلا أنه توفي بعد سبع ساعات متأثرًا بجراحه.

وكشف صديق مقرّب من الطيار الأمريكي "آرون بوشنل" أنه أخبره قبل ساعات فقط من إشعال النار في نفسه بأن لديه معلومات سرية عن القوات الأمريكية التي تقاتل في غزة.

إن المتتبّع لحياة الطيار الأمريكي "آرون بوشنل" يجد أن ما فعله لم يكن أمرًا عارضًا، حيث إن حياته كانت حافلة بالعديد من المواقف الإنسانية الأخرى، التي كان آخرها إشعال النار في نفسه. ومن بين المشاهد الإنسانية في حياته:

كان "آرون بوشنل" ينتمي إلى مجموعة دينية يُطلق عليها مجتمع يسوع.

كان يعمل متطوعًا لتوفير الملابس والطعام للمشرّدين.

كان كثير الحديث مع أصدقائه عن أحوال الفلسطينيين والدور الأمريكي المشين في الحرب بين الكيان الصهيوني وشعب غزة، وعن الممارسات اللاإنسانية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية في دول مختلفة من العالم.

في أعقاب مقتل "جورج فلويد" على يد الشرطة الأمريكية عام 2020م بدأ "آرون بوشنل" البحث في تاريخ الولايات المتحدة، وأخبر المقرّبين منه أنه يفكر بجدية في اتخاذ موقف ضد جميع أعمال العنف التي تمارسها أمريكا، كما أنه يفكر في التقاعد من الجيش والانخراط في العمل السياسي.

وقبل قيامه بإشعال النار في نفسه قام بإهداء مقتنياته وأثاث بيته لأصدقائه وجيرانه.

لقد أثبت الطيار الأمريكي "آرون بوشنل" للعالم كله أن الأخلاق الإنسانية لا دين لها.

إن ما فعله قد سلّط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني، وزاد النار تأججًا في الضمير الإنساني حول العالم.

إن ما فعله جعل حركة حماس تنشر نعيًا لوفاته، وجاء فيه: "سيبقى الطيار البطل آرون بوشنل خالدًا في ذاكرة شعبنا الفلسطيني وأحرار العالم، ورمزًا لروح التضامن الإنساني العالمي مع شعبنا وقضيته العادلة".

كما جعل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تنشر نعيًا لوفاته، وجاء فيه: "إن قيام جندي أمريكي بالتضحية بنفسه من أجل فلسطين أرفع تضحية ووسام ورسالة مؤثرة للإدارة الأمريكية لوقف تورطها في العدوان".

وختمت الجبهة بيانها قائلة: "إن فلسطين ستنتصر طالما أنها حفرت عميقًا في وجدان وضمير العالم، وسيُسجل التاريخ بحروف من ذهب أسماء كل المتضامنين وأحرار العالم الذين وقفوا معها وضحوا بأرواحهم من أجلها".

الآن يمكننا أن نقول:

إن "آرون بوشنل" ليس أول مواطن أمريكي يقوم بحرق نفسه احتجاجًا على ما يحدث في غزة، ففي ديسمبر 2023م توفيت مواطنة أمريكية ترتدي العلم الفلسطيني بعد أن أشعلت النار في جسدها أمام القنصلية الإسرائيلية في مدينة أتلانتا، احتجاجًا منها على ما يقوم به الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، إلا أن السلطات الأمريكية تكتمت على اسم هذه السيدة وهويتها.

ونقول:

إن مثل هذه الحوادث تسجلها ذاكرة التاريخ ولا تنساها الأجيال، وسيكون لها ما بعدها، ولن تمر على أمريكا ودول الغرب مرور الكرام مهما طال الزمان، وسيأتي الوقت الذي تكون فيه الشرارة التي تبعث الوعي العربي الذي أصابه الخرف، وتوقظ ضمير العالم الذي مات إكلينيكيًا!!

وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

كيف حوّل اليهود المال والجنس إلى أدوات للهيمنة السياسية؟

لطالما كان اليهودُ دهاقنةَ الرِّبا والدَّعارة على مدى التاريخ، أينما حلّوا. قرأتُ هذه العبارةَ – …