غمرت مناهج التربية وأدواتها الساحة التربوية، حتى قام فريق ينادي بالتربية بالفطرة كما كان يفعل الأوّلون، بتمشية الحال وعدم تكلّف تجريب وسائل وطرائق ترهق الوالدين وتجعل التربية عبئًا إضافيًّا بدل أن تكون ممارسة فطرية. ويتحجج أصحاب المذهب بأن الله تعالى هو من يربّي العباد والأنفس، فما على الوالدين إلا حدّ النفقة والكسوة والإطعام، ثم يزيد من شاء في التربية زيادة تَرَف وتفضّل لا واجب ومسؤولية! وفي هذا الكلام خلل؛ لأن الله تعالى هو المربّي وهو الرزاق وهو الحق وهو الهادي... لكن ذلك ليس مدعاة ليتوقف العبد عن العمل في جهته متحجّجًا بأسماء الله تعالى وصفاته، بل إن إيمانه بها يعني أن يحتجّ إليها أي يحتكم ويعمل بمقتضاها، لا أن يتحجّج بها أي يتخذها عذرًا للقعود عن القيام بالتعبد المطلوب وفاقًا.
فالمؤمن يسعى – مثلًا – لكسب القوت موقنًا أن الله وحده الرزاق وإن تعددت الأيدي التي تعطي، ويجتهد في الدعوة للحق على علمه بأن الله هو الحق الذي لا يهدي للحق غيره ولا هادي لمن أضله... وهكذا. وقد سأل الصحابة – عليهم الرضوان – من قبل عن جدوى العمل إذا كان الكل معلومًا عند الله تعالى: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى... فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}".
فلا بد للأبناء من التربية، وهي على وزن "تَفْعِلَة"، من "ربّى" على وزن "فعّل"، والتاء والتشديد تفيدان في جذر الكلمة معنى بذل جهد. وبذل الجهد المطلوب من الوالدين اليوم لم يعد الغرس الصحيح لجذور الحق في أرض الناشئ فحسب، بل مدافعة انغراز أشواك الباطل فيها، في خضمّ الميديا والمغريات وأزمة انفتاح باب الاستيراد والتأثر لا على مِصْرَاعَيْهِ، بل بغير مصاريع أصلًا! ومن فطرة الوالدية الحقّة أن تغار على فلذات أكبادها أن يتولّى غيرها الغرس فيها، ويقوم سواها على سوائها، كما يغار الراعي على حِمَاه أن يرعى فيه كل من هبّ ودبّ! وتختلف مناهج هذه التربية بحسب الأعمار والبيئات لا ريب، لكن تظلّ هي نوعية التربية المطلوبة والمفقودة في آنٍ معًا.
وعندما يكون الكلام على التربية بهذا العمق وهذه الجدية، يبدأ الاحتجاج بأن الكلام على البدء من الجذور تهرّب من مواجهة الواقع القائم، أو أن إلحاح المشكلات المجتمعية لن يصبر حتى تتربى النفوس، خاصة تلك التي شابت على ما شبّت عليه! والحق أن الهروبية الحقيقية هي كلّ مقترح حلٍّ لا يبدأ من التربية على كامل الإسلام الصريح، أي غير المخلوط بشوائب استيراد وترقيعات أسلمة ومواربات تستحي من الحق؛ وغالب المناهج التربوية القائمة هي التي تتهرب من الحل بالاشتغال بحالة.
أصل الأمراض في بنية هذه الأمة لم يتغيّر منذ عقود، وإنما تفاقم عدد الأجيال التي نشأت فيها، فتوسّعت قاعدة الأعراض، فتوهّم الناظرون أنها أمراض جديدة!
ودليل ذلك أن عقودًا من تطبيق مختلف المناهج التي بدأت من كل أنواع الفروع عوضًا عن الجذور لم تحلّ المشكلات حقيقة أو تمامًا، بل غاية ما فعلت أنها انهمكت في دوامة إعادة تدوير نفس المشكلات بمختلف الصياغات. فأصل الأمراض في بنية هذه الأمة لم يتغيّر منذ عقود، وإنما تفاقم عدد الأجيال التي نشأت فيها، فتوسّعت قاعدة الأعراض، فتوهّم الناظرون أنها أمراض جديدة! أضف إلى ذلك أنه على انتشار الشعارات والمؤسسات "التربوية" في عصر اليوم، تجد هذا النوع المطلوب من التربية أعزّ من الكبريت الأحمر، لأنه يتطلب صبرًا ودأبًا وبدءًا من الجذور، بما يعاكس طابع الإيقاع السريع الذي ابتُلي به هذا العصر، والذي يستعجل المربين لطرح مناهج لها طابع "الإنجازية" كأنه بالإمكان تقويم فساد قرونٍ في سويعات!
ومن هنا تُفهم لماذا تستسهل بعض التيارات الإصلاحية والتجديدية التصدّر لتقويم تشريع الله تعالى في الناس، على التصدّر لتقويم حركة الناس بتشريع الله تعالى!
وإن السؤال الواقعي الملحّ والمتجاهل في آن معًا: ما النفع الذي عاد علينا من الاستمرار في هذا المنهج السقيم: الرضا بالجهل بالتصور الشرعي في مختلف تفاصيل حياتنا بسبب دوام الانشغال وازدحام المشاغل (بالدراسة أو الكارير أو اتباع الهوى)، والإصرار بالتوازي على تحميل الشريعة جرائر جرائم الممارسات المخالفة؟! أليس هذا النهج عين التهرّب من مواجهة المشاكل الحقيقية ووضع الحلول الحقيقية لها، يقع فيه أول الداعين لعدم التهرّب من مواجهة الواقع بواقعية؟!
حِسّ الوالدية وإن كان فطرة يستدعيها السياق تلقائيًّا، إلّا أنّه – كغيره من مكونات الفطرة – يحتاج لبصيرة العلم وتهذيب التزكية وصقل المران، ليثمر ذلك الحسّ على المدى منهجية رشيدة ووالدية حقيقية وعميقة.
وخلاصة التربية الحسنة أنها تقوم على ركنين: علم قويم ومعاملة حكيمة. وهذان لا يتأتيان بالوراثة أو يهبطان عفوًا دون بذل جهد من طرف الوالدين في تحقيق والديتهما، التي يجب أن تتجاوز مجرد إخراج الطفل لحيّز الوجود وحفظ بقائه، لرعاية ذلك الوجود وتجويد عمرانه. فحِسّ الوالدية وإن كان فطرة يستدعيها السياق تلقائيًّا، إلّا أنّه – كغيره من مكونات الفطرة – يحتاج لبصيرة العلم وتهذيب التزكية وصقل المران، ليثمر ذلك الحسّ على المدى منهجية رشيدة ووالدية حقيقية وعميقة. خاصة في ظل توسّع تحديات عصر اليوم وتداخل ثقافاته وانهمار مغرياته، بما لم يعد يصلح معه نهج الإدارة الآلية القائمة على الأوامر والنواهي، وسلطوية إملاء الأفعال والمشاعر، وقسر الالتزام الديني الصوري من الخارج بدل بذره في الروح من الداخل.
إنّ الأحسن في تربية الأبناء يعني الأصلح في تنشئتهم على ما يجب أن ينشأوا عليه. وهذا يتطلب:
- أن يتعلّم كل أب وأم القَدْرَ الواجب من علوم الاضطرار أولًا، ويقدّماه فوق وقبل أيّ تعلّم آخر. فلا تجزئ النية الحسنة في التربية بحال، بل لو صدقت النية الحسنة لدَفعت أصحابها لطلب العلم بسبل إحسان التربية على أمر الله تعالى.
- أن يتدارسا الأصلح لتحقيق الغايات التربوية، في ظلّ ظروفهما وسياقهما المخصوص، ووفق ما يرتضيان مسؤوليتهما.
وهكذا يُوفَّق الوالدان في تنشئة الولد على ما يجب أن ينشأ عليه عبدًا لله تعالى. ولا يُنشِّئ عبدًا لله تعالى انتهاءً إلا عبدٌ لله تعالى ابتداءً.
