لماذا تبقى فلسطين مقياس صدق الأمة؟

الرئيسية » بصائر الفكر » لماذا تبقى فلسطين مقياس صدق الأمة؟
Palestinian flag

فلسطين ليست أرضًا فحسب، بل عقيدةٌ حيّةٌ تسكن وجدان الأمة. فيها تتقاطع معاني الإيمان والتاريخ، ومنها تنبعث الأسئلة الكبرى حول هوية الأمة وموقعها في العالم. من فقدَ إحساسه بفلسطين، فقدَ صلته برسالة الإسلام التي جعلت من القدس نقطة الارتكاز في وعي الأمة وضميرها.

فلسطين.. مِرآة الأمة وامتحان وعيها

منذ أن بارك الله أرضها في قوله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، غدت فلسطين أيقونة الوحي وميدان الامتحان. فهي البقعة التي جمع الله فيها أنبياءه في رحلة الإسراء والمعراج، لتكون رمزا لوحدة الرسالات ووحدة الأمة من بعدها. هذه الرمزية ليست تاريخًا منقضيًا، بل خطابٌ مستمرٌّ للأمة بأن من يفقد وعيه تجاه القدس، يفقد بوصلة الإيمان.

الاستعمار الحديث، حين أراد إسقاط الأمة، بدأ من هنا؛ من انتزاع فلسطين من وجدانها، وتحويلها من عهدٍ عقديٍّ إلى ملفٍ سياسيٍّ قابلٍ للمساومة. لم تكن “سايكس بيكو” تقسيمًا للأرض بقدر ما كانت تفتيتًا للوعي. فجُعلت فلسطين “قضية الفلسطينيين”، بعد أن كانت عنوانًا للأمة بأكملها.

ولأن الأمم تُعرف بقضاياها الكبرى، كانت فلسطين مقياس صدق الأمة مع ربها. فمن جعلها مركز اهتمامه بقي متصلًا بالنبوة وبالقرآن وبالعقيدة الجامعة. ومن جعلها شأنًا هامشيًا انقطع عن جوهر رسالته. ولذلك كانت كل صحوة إسلامية صادقة تبدأ بالعودة إلى القدس، لا بالحديث عنها فقط، بل بجعلها محورًا في البناء الفكري والتربوي والسياسي.

لقد حاولت قوى التغريب أن تزرع في الأجيال فكرة “الواقعية السياسية” التي ترى فلسطين عبئًا، لا مسؤولية. لكن وعي الأمة ظلّ يقاوم هذا الانفصام، فكلّما اشتدت الهجمة على القدس، ازداد حضورها في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي. لقد صمدت فكرة فلسطين لأنّها مرتبطة بأقدس المفاهيم في العقيدة: الإيمان والرباط والجهاد والشهادة.

في زمنٍ تهيمن فيه لغة المصالح، تبقى فلسطين لغة المعنى؛ تذكّر الأمة أن وجودها لا يُقاس بمكانتها الاقتصادية أو تحالفاتها، بل بمدى وفائها لأقدس عهودها. فهي مرآة تكشف معدن الأمة: هل لا تزال الأمة تعرف لماذا وُجدت، أم أصبحت تبحث عن مبرّر للبقاء فقط؟

فلسطين ليست قضية وطنٍ محدود، بل عهدُ أمةٍ ممتدٌّ من الوحي إلى التاريخ، ومن الرسالة إلى المصير؛ من خانها فقد خان معنى انتمائه إلى الإسلام نفسه

فلسطين في الوعي القرآني والحركي

حين تحدّث القرآن عن المستضعفين، لم يكن يصف واقعًا عابرًا، بل يضع قانونًا للتاريخ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].

هذا الوعد الإلهي يتجسّد في كل مرحلةٍ من مراحل الصراع على أرض فلسطين. فكلّما اشتدّ الحصار، كان ذلك إيذانًا بولادة وعيٍ جديدٍ أشدّ صلابةً وأوضح بوصلةً.

لقد نشأت الحركات الإسلامية المعاصرة – وفي طليعتها جماعة الإخوان المسلمين – على قناعةٍ راسخةٍ أن التحرر من الاستبداد الداخلي مرتبطٌ بتحرير فلسطين من الاحتلال الخارجي. فالقضيتان متلازمتان؛ لأن الاستبداد يفصل الأمة عن رسالتها كما يفصلها الاحتلال عن أرضها. ولذلك كان شعار الدعوة دومًا أن “طريق القدس يمر من بناء الأمة”، وأن من لا يُصلح الداخل لا يحرّر الخارج.

ثم جاءت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لتجسّد هذا المعنى في الميدان. فحين وُلدت من رحم الانتفاضة، لم ترفع شعارًا سياسيًا بل شعارًا عقديًا: “الإسلام هو الحل”. جعلت من الجهاد فريضة، ومن الثوابت العقيدية برنامجًا عمليًا. فالمقاومة عندها ليست تكتيكًا عسكريًا، بل عبادةٌ جماعيةٌ وامتدادٌ للنبوة في مواجهة الطغيان.

إنّ إصرار المقاومة على ربط مشروعها بالهوية الإسلامية لم يكن خيارًا تنظيميًا بل وعيًا شرعيًا. فالقدس لا تُستردّ إلا بالمنهج الذي حُفظت به أول مرة: الإيمان والجهاد والوحدة. وهذا ما عبّر عنه النبي ﷺ بقوله:
(لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) رواه مسلم.
وقد أجمع العلماء على أن هذه الطائفة في أكناف بيت المقدس وما حولها، أي في قلب فلسطين.

معركة طوفان الأقصى جاءت لتُعيد المعنى القرآني إلى الميدان السياسي. فحين خرجت المقاومة من تحت الحصار لتقلب موازين القوة، لم تكن تدافع فقط عن أرضٍ محتلة، بل عن معنى الاستخلاف ذاته. أرادت أن تقول للعالم: إنّ الأمة التي تفقد البوصلة يمكنها أن تستعيدها حين تتذكّر قِبلتها الأولى.

في هذا السياق، تصبح مركزية فلسطين شرطًا لمركزية الإسلام في الوعي العالمي. فالإسلام، بما هو دين حضارة ورسالة، لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن قضيته الأخلاقية الكبرى: الدفاع عن المظلوم، وردّ العدوان، وإحياء معنى العدل في الأرض. وكلّ هذه المعاني تتجسّد في فلسطين أكثر من أي مكانٍ آخر.

كلما حاولت قوى التطبيع أن تنزع من قلوبنا فلسطين، أعادها الله إلينا من رحم الدماء والوعي، لتبقى البوصلة الوحيدة التي تفرز بين من يعبد الله ومن يعبد المصلحة

اليوم، في عام 2025، ومع تصاعد موجات التطبيع، تحاول قوى كثيرة أن تفرض على الأمة نسيانها لفلسطين باسم “الاستقرار”. لكن ما جرى بعد طوفان الأقصى قلب المعادلة: عاد الوعي الشعبي الإسلامي إلى جذوره، واكتشف أن الصراع في جوهره ليس على أرضٍ، بل على تعريفٍ جديدٍ للإنسان المسلم: هل هو تابعٌ أم شاهدٌ على الناس؟

من هنا، فإنّ مركزية فلسطين ليست شعارًا دعويًا بل بنية فكرية تعيد ترتيب أولويات الأمة. فهي التي تمنح مشروعها الحضاري بعده الأخلاقي والروحي، وتربط بين العدل في الداخل والتحرير في الخارج. ومن نسيها، فقد خسر معنى الأمة قبل أن يخسر الأرض.

لقد آن للأمة أن تدرك أن معركتها في فلسطين ليست معركة جغرافيا بل معركة وعيٍ وهوية. فكلما ازداد العدو توحّشًا، ازداد حضور فلسطين في ضمير المسلمين. إنّ هذا الحضور المتجدد ليس نتاج العاطفة، بل ثمرة وعدٍ إلهيٍّ متجذّر في كتاب الله:
{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].

فلسطين اليوم ليست فقط رمزًا سياسيًا، بل نقطة التقاء بين الوحي والتاريخ، بين الإيمان والفعل، بين السماء التي وعدت والأرض التي تصبر. ومن حافظ على مركزية فلسطين في وعيه، حافظ على مركزية الإسلام في وجدانه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى الذين يقولون: أين الله مما يحدث في غزة!!

عندما تشتد المحن وتقوى الابتلاءات ويكون الباطل منتفشاً وله دولة، وفي الجانب الآخر تتناثر أشلاء …