“الريلز” وتعفّن الدماغ: كيف ندمر حياتنا بتمريرة إصبع

الرئيسية » بصائر تربوية » “الريلز” وتعفّن الدماغ: كيف ندمر حياتنا بتمريرة إصبع
الريلز تعفن الدماغ كيف ندمر حياتنا بتمريرة إصبع - الريلز - مقاطع الفيديو القصيرة - السوشال ميديا - ستوري - شورتز - سماح المزين - بصائر - Brain rot

سمه ما شئت، فسواء قلنا عصر السرعة، أو زمن التقدم، أو عصر التكنولوجيا، أو عالم التقادم، أو وقت تسطيح المفاهيم والقيم، أو زمن استعراض المنجزات السريعة والإنجازات السطحية، أو زمن متابعة دوران عجلة الحضارة...

إلا أن التسمية الأدق هي أنه: زمن الضياع وتدمير الذات!

ذات مرة سألت نفسي:

"لماذا كنا نجد مدة 10 أيام بطيئةً وبعيدةً جدًا - قبل عشرين عامًا مثلًا - بينما نجد مدة 10 أعوام قريبة وسريعة في زمننا هذا!"

لكنني اليوم لا أستغرب حين أجد أبناء الجيل الصاعد لا يتحملون الصبر لدقيقة واحدة يستمعون فيها لمعلومة أو نصيحة، هذا تفسير منطقي لما يجري منذ 25 عامًا تقريبًا وهو مستمر ومتصاعد بوتيرة غريبة – لكنها مفهومة لمن يتأمل ويقرأ ويدقق.

يلعب المسوقون والمروّجون العالميون للتكنولوجيا وأدواتها على هذا الوتر تحديدًا (قلة الصبر – والاستعجال) الذي يوصف به جيل الشباب عمومًا وقد انضمت إليهم كثير من الفئات بعد انتشار السوشيال ميديا التي تستعرض مئات المعلومات في ثوانٍ معدودة.

ومن هنا تُستغل الرغبة في الحصول على السعادة كمكافأة نفسية.

مقاطع الفيديو القصيرة يمكنها أن تطبطب مؤقتًا على وجع، لكنها في المقابل تمزّق الانتباه تمزيقًا، حتى يصل بك الأمر إلى ما يسمى بـ تعفّن الدماغ!

تعفُّن الدماغ “Brain Rot”:

طيّب.. وما شأن "الريلز" أو الفيديوات القصيرة في الأمر؟ كيف تساهم تمريرة الإصبع في إفساد حياتنا؟ وكيف يمكن أن نضر أنفسنا من خلال مطالعة فيديو يعطينا معلومات في أغلب الأحيان؟ الجواب باختصار: ما يصيبك خلال تتابع المعلومات، وتضاربها من فيديو لآخر، كذلك شعورك بالتحفيز المؤقت والنشوة المفاجئة بدون أن تفعل شيئًا، بالإضافة إلى سطحية المعلومة التي تستمع إليها... هي المشكلة بعينها!

اقرأ: استراتيجيات لتعزيز قوة الإرادة والانضباط الذاتي

مقاطع الفيديو القصيرة أو "الريلز" يمكنها أن تطبطب مؤقتًا على وجع، وتساعد في الهروب من واقع مؤلم، أو غير مرغوب، كذلك تمرر الوقت وتشتت الملل، وتغير كثيرًا من طباع الإنسان، أفكاره، أهدافه، تصرفاته وأسلوب حياته، ولكن بالسلب للأسف؛ لأنها في المقابل سوف تمزّق الانتباه – تمزّقه بكل معنى الكلمة – فلا يعود لكل المعلومات التي سمعها أي أثر إيجابي في حياته؛ فهي معلومات وإن كانت صحيحة ستظل سطحية، حتى يصل بك الأمر فتجد نفسك وقد وصلت إلى ما يسمى بـ "Brain Rot" أو تعفّن الدماغ.

حين دخل هذا المصطلح إلى نقاشات خبراء الصحة النفسية بعد أن كان مجرد تعبير دارج في الآونة الأخيرة، تناوله الخبراء بالدراسة ووجدوا أن تعفن الدماغ هو الوصف الدقيق لحالة التدهور التي يصاب بها الدماغ بسبب الاستهلاك الذهني اللامحدود للمحتوى الرقمي، والذي بدوره يُوصِل الإنسان إلى حالة الإنهاك المعرفي والخدر العاطفي .

وكان قد استخدم المصطلح سابقًا للسخرية من الإفراط في مشاهدة برامج الواقع وألعاب الفيديو وحسب، لكنه بعد انتشار المنصات القصيرة مثل تيك توك، انستغرام ريلز، يوتيوب شورتس... أخذ زخمه واعتمده الباحثون لأنه أصبح اختصارًا يعبر عن حالة "الزومبي" التي يمر بها الفرد بعد ساعات من تمريرة الإصبع بين أشكال المحتوى الرقمي.

ما يصيبك خلال تتابع المعلومات، وتضاربها من فيديو لآخر، وشعورك بالنشوة المفاجئة دون أن تفعل شيئًا... هي المشكلة بعينها

“تعفّن الدماغ ليس تشخيصًا سريريًا معترفًا به، إنه وصف مستعار لحالة الإرهاق الذهني والتراجع المعرفي المرتبط بالاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي، ويعني غياب استخدام المنطق والفطرة السليمة أثناء استهلاك المحتوى على الإنترنت”، كما يقول د. سمير باريك - مدير قسم الصحة السلوكية والنفسية في مستشفى فورتيس (فاسانت كونج بالهند)، كما أكد أيضًا على أن استهلاك شيء لا يفيد، سيؤثر على الصحة.

وقد ربط الخبراء متابعة المحتوى الرقمي السريع بتعفن الدماغ – وإن لم يكن تشخيصًا ملموسًا – إلا أن آثاره ملموسة جدًا في السلوك والتجاوب مع المحيط والقدرة على الإنجاز... إذ أن دراسات أجريت في 2022 أثبتت أن التعود على المكافآت السريعة التي تمنحها مشاهدة المحتوى قصير المدة تبرمج العقل على أن الاستمتاع لا يمكن أن يحصل إلا في هذا المكان وبهذه الطريقة المختصرة!

تخيل أنك تُنشّط وجه دماغك فقط، وتترك بقيته تتعفّن!

أعراض تعفّن الدماغ:

أسلفت الحديث عن عدة أعراض تنبئ بالإصابة بتعفن الدماغ، الذي يأتي على شكل تعب ذهني، سهولة تشتت، انفصال عاطفي، ومن أعراضه كذلك: الاستعجال، النسيان، ضعف التركيز، صعوبة قراءة مقال كامل، الشرود أثناء المحادثات، النسيان عمومًا، ونسيان المحتوى بعد دقائق من مشاهدته، التبلد العاطفي، الحاجة المستمرة إلى وجود ضوضاء في الخلفية، والإرهاق الذي يعطل التفكير، تضييع الوقت، استعجال النتائج، العزلة، القلق أو الأرق واضطرابات النوم، التوتر، العصبية، ضعف وصعوبة الإنجاز، التسويف، تأخر ردات الفعل، وتبلّد الاستجابة الطبيعية بسبب التعرض المتواصل للمدخلات العاطفية الحادة!

ناهيك عن عَرَضٍ خطيرٍ جدًا هو التحول إلى مستهلك يرغب باقتناء كل ما يراه، وشراء كل ما يعرض أمامه من سلع استهلاكية بدون موازنة الأمور أو مجرد التفكير في احتياجاته الحقيقية أو في جودة ما يُعرض أمامه، ترتفع لديه الطاقة الشرائية، ويشعر بالاحتياج الوهمي لكل ما يقابله من منتجات، وهذا أحد مفرزات متابعة السوشيال ميديا عمومًا، سببه استعراضات المؤثرين "السلبيين" خصوصًا لما يأكلون وما يشربون وما يشترون، فيتحول إلى مستهلك منقاد بعمى لا يفكر ولو لنصف دقيقة قبل الضغط على أيقونة: شراء الآن!

اقرأ: كيف نستغل قوة التركيز في تحقيق أهدافنا

الإدمان – بمعناه الحرفي – على المحتوى الرقمي مع تجاهل مدى خطورته، وحالة الـ"اسكرولينج" اللامنتهي، تبدأ بالانجذاب إلى المحتوى القصير ليناسب أوقاتنا الفاصلة بين عملين دسمين، أو في فترات شحذ وتجديد الطاقة ثم تبدأ المشكلة بالاستسلام لقناعة أن هذا المحتوى مفيد في تحقيق الاسترخاء أو "فصل الطاقة عن الدماغ ليرتاح من التفكير والعمل المستمر"، ولكنها للأسف تنتهي بالسيطرة على سطح الدماغ مع إهمال بقية أجزائه ليحدث ما يسمى مجازًا بـ"تعفن الدماغ"

تخيل أنك تُنّشِّط وجه دماغك فقط، وتترك بقيته تتعفن!

عقل الإنسان غير مصمم للتمرير اللانهائي، بل لما هو أكثر عمقًا واستقرارًا... فخذ خطوة للخلف ودع عقلك يتنفس!

هل يمكن التخلص من تعفن الدماغ؟

نعلم أن إفراز هرمون "الدوبامين" يلعب دورًا مهمًا في التحفيز، وفي العادة نُعلّم الشباب كيفية تدريب الدماغ على الحصول على التحفيز ومكافأته بعد مشوار طويل من الإنجاز المثمر، وهذا الـ"اسكرولينج" اللامنتهي يفعل العكس، فـ كل تمريرة أو مشاهدة أو إعجاب تمنح الدماغ ضخة صغيرة من الدوبامين فتتولد لديه دائرة من التوق والإشباع الفوري، فيتبرمج على توقع التحفيز بدون بذل مجهود، وبالتالي الكسل عن العمل .

يقول الدكتور باريك: “بما أن تعفّن الدماغ ليس تشخيصًا سريريًا، فليس له علاج دوائي، لكن يمكن التغلّب عليه بطرق سلوكية ومعرفية مثل تقليل وقت الشاشة، وتجربة تمارين الانتباه، والاستهلاك الواعي للمحتوى”

كما يقول د. خالد غطاس (المتخصص في السلوك البشري): "إن القدرة على الانتظار هي السر في تحقيق كل شيء، لأن مدّة المشاعر هي ما يصنع الإنجاز وليس قوة المشاعر"  بمعنى أن التحفيز السريع وقصير المدة هو تحفيز عابر، بينما التحفيز المبني على دراسة واقتناع وخبرة وتجربة هو التحفيز البنّاء الذي يؤتي أُكُلًا طيبًا!

اقرأ أيضًا: هل أنت مستعد للتغيير

إليك بعض الاستراتيجيات التي ستساعدك حتمًا في التخلص من مشكلة تعفن الدماغ:

  • الصيام الرقمي:

يسمى أيضًا (ديجيتال ديتوكس) ويمكن تحقيقه بالتدريج، ابدأ بترك الهاتف والتوقف عن مشاهدة أي محتوى رقمي لمدة 15 دقيقة أول مرة، ثم تدرّج بالزيادة حتى تصل إلى الصيام الرقمي ليوم كامل وليكن عطلة نهاية الأسبوع مثلًا؛ كي لا تعطل أعمالك، ماذا تفعل خلال هذا الوقت؟ يمكنك أن تفعل الكثير من الأنشطة البدنية والعقلية، أو استرخ وحسب، اجلس مع نفسك، فكر، تأمل، تنفس!

  • إعادة تدريب الانتباه:

اقرأ يوميًا، اكتب يومياتك بدون أجهزة، ارسم ولوّن على الورق، ابدأ بدقائق معدودة ثم تدرّج في زيادة المدة.

  • المحتوى الهادف:

تابع صناع المحتوى العميق، والطويل، اجمع عدة مصادر لنفس الموضوع وطالعها سوية، في أي تخصص أو عن أي موضوع كان!

  • العلاج بالطبيعة:

اقض وقتًا بين أحضان الطبيعة؛ لتعيد شحن طاقتك وتستعيد تركيزك، تمشَّ في مكان مخضرّ وينبض بالحياة، تنفس هواءً نقيًّا، مارس تمارين رياضية في مكان مفتوح كي تنشط دورتك الدموية...

  • النوم الجيد:

يتحقق النوم الجيد بمقاطعة الشاشات وتجنبّها قبل النوم بساعتين تقريبًا، والنوم العميق يعيد ترتيب خانات العقل ومحتوياته ويجدد طاقتك يوميًا.

عقل الإنسان غير مصمم للتمرير اللانهائي، بل لما هو أكثر عمقًا واستقرارًا، فيزدهر بالسكون والتركيز والهدوء

أخيرًا...

عقل الإنسان غير مصمم للتمرير اللانهائي، بل لما هو أكثر عمقًا واستقرارًا، فيزدهر بالسكون والتركيز العميق والهدوء، والتفاعل مع الواقع المحيط بشكل معقول ومتزن.

مهما ساهم التشتت في إمداد العقل بالمكافأة الوهمية تلو الأخرى من الاستمتاع اللحظي، فإن المكافأة الحقيقية هي الإنجاز الذي يتحقق بالصبر والمثابرة والعمل الدؤوب، وإن أذكى ما يمكن فعله أمام هذا المد اللامنتهي من التمرير والسرعة هو التوقف، لذلك: خذ خطوة للخلف ودع عقلك يتنفس! 

كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

بين الإخلاص والهندسة: المعادلة التي تحفظ عمر الحركات

حين ننظر في مسار الحركات الإصلاحية خلال القرن الأخير، نرى مشهدًا محيِّرًا في ظاهره: تنظيمات …