مع حلول ذكرى انطلاقة حركة حماس الثامنة والثلاثين، يعود سؤال البدايات ليضيء مشهد الحاضر: كيف تحوّلت تلك النواة الصغيرة التي وُلدت في الظلّ، تتخفّى في الأزقة وتتنقّل بين البيوت، إلى حركة تمتدّ اليوم على مساحة الوعي الفلسطيني كلّه؟ وكيف انتقل الفعل المقاوم من مبادرات سرّية متقطّعة إلى بنية متشعّبة تفرض حضورها على الإقليم، وتعيد تعريف حدود الممكن في مواجهة احتلال مدجّج بالقوة، ومسنود بالعالم؟
إن الانطلاقة، بمعناها العميق، ليست مجرّد تاريخ على الروزنامة، بل لحظة تتجدّد فيها الأسئلة الأولى: لماذا اختارت الحركة المقاومة طريقًا لا يملك من الإغراءات شيئًا سوى الشرف؟ وكيف اصطبغت هويتها كلّها بلون هذا الخيار حتى صار هو الأصل، وما عداه فروع؟
هذا التمهيد ليس احتفاءً بالماضي، بل مدخلٌ لقراءة مسار المقاومة كما تشكّل في الحركة: من العمل السرّي إلى هندسة الردع، من إثبات الوجود إلى فرض المعادلات، ومن ردّ الفعل إلى بناء الفعل، حتى أصبح فعل المقاومة نفسه أشبه بوجدان جمعيّ يتجاوز التنظيم إلى الشعب، ويتجاوز السلاح إلى الوعي.
أثمان باهظة
لقد دفعت حماس ثمن هذا المسار منذ اللحظة الأولى، لا بطريقة عشوائية، بل بطريقة تكاد تشكّل قانونًا داخليًا للتجربة؛ فكل تقدّم كان يُدفع بثمن، وكل قدرة تُبنى كانت تُفتتح بالشهادة. ومع الزمن، اتخذ هذا الثمن شكلًا من أشكال الشرعية الداخلية، إذ صار القادة الذين يقودون الفعل هم أنفسهم الذين يدفعون أثمانه: ياسين، والرنتيسي، والجعبري، والضيف، وهنية، والسنوار، والعاروري والعشرات ممّن تكدّسوا في ذاكرة الحركة وتاريخها.
وهذا الثمن لم يكن مجرّد سلسلة اغتيالات، بل كان بمثابة إعادة صياغة لفكرة المقاومة بوصفها قيمة أخلاقية قبل أن تكون وظيفة سياسية. ولذلك، حين يتحدّث بعض قادة الحركة، كما فعل الأستاذ خالد مشعل في لقائه الأخير، عن صعوبة اللحظة وضغطها السياسي والإعلامي، فإن خلف هذه الكلمات اعترافًا بأن المقاومة لم تعد تُقاس بمدى القدرة على الضرب فقط، بل بمدى القدرة على تحمّل أثمانها دون إسقاط جوهرها . إن الحركة التي فقدت هذا العدد من القادة عبر عقود لا يمكن أن ينحصر فعلها في حسابات السياسة اليومية، لأنها لم تُبنَ على منطق المكاسب والخسائر، بل على منطق الرسالة والثبات.
إن الحركة التي فقدت هذا العدد من القادة عبر عقود لا يمكن أن ينحصر فعلها في حسابات السياسة اليومية، لأنها لم تُبنَ على منطق المكاسب والخسائر، بل على منطق الرسالة والثبات
ومن هنا جاء التحوّل الكبير في مسار المقاومة حين انتقلت من العمل السرّي إلى بناء كتائب القسّام؛ ذلك الانتقال الذي كان أكثر من مجرّد تأسيس جناح عسكري، بل كان ترجمة لتطوّر داخلي في فهم الحركة لطبيعة الصراع. فحين أدركت أن الاحتلال ليس قوّة مادية فقط، بل منظومة سياسية أمنية تعمل على إنتاج “زمن إسرائيلي” يريد أن يفرض شكله على الوجود الفلسطيني، صار لزامًا أن تُنتج الحركة شكلها الخاص من الزمن، وأن تبني قوّة قادرة على تعطيل الزمن المفروض. ومن هذا الفهم جاءت إستراتيجية الردع، لا كمحاكاة لنماذج دول، بل كخلقٍ فلسطيني لطريقة تجعل الاحتلال يدفع ثمنًا لعدوانه قبل أن يقرّر فعله. وفي مواجهة جيش يمتلك التفوّق التقني والعمق الدولي، جاءت الردعية الفلسطينية، رغم تواضع أدواتها في البداية، لتقول إنّ القوّة ليست أرقامًا فقط، بل إرادة مستعدّة لتحويل ما في اليد إلى ما في الإمكان .
لا يمكن أن تنتهي المقاومة!
مع تطوّر التجربة، لم تعد المقاومة محصورة في استخدام السلاح، بل اتّسعت إلى إدراك أن الشعب نفسه يمكن أن يتحوّل إلى جزء من آلة الصراع، لا بوصفه حاضنة فقط، بل بوصفه فاعلًا مباشرًا. ولذلك لم تتناقض المقاومة الشعبية التي تمدّدت في القدس والضفّة والداخل مع الإعداد العسكري، بل شكّلت امتدادًا طبيعيًا له؛ فالفعل الشعبي هو التعبير الخام عن مقاومة الإنسان لمعنى الاحتلال، بينما الفعل العسكري هو التعبير المنظّم عن هذه الحالة. ومن يستوعب التجربة الفلسطينية جيدًا يدرك أن الدعوات التي تُطرح، دوليًا وإقليميًا، لسحب السلاح أو تقليصه، تتجاهل حقيقة بنيوية: أنّ السلاح ليس غريبًا عن المجتمع حتى يُطلب فصله عنه، بل هو امتداد لإرادة تُولد كل يوم تحت سقف الحصار، والجدار، والاقتحامات، والمستوطنات، والاعتقالات؛ لتثبت وجودها وتصدق على حياتها ورفضها لكل صور الخنوع والذل.
السلاح ليس غريبًا عن المجتمع حتى يُطلب فصله عنه، بل هو امتداد لإرادة تُولد كل يوم تحت سقف الحصار، والجدار، والاقتحامات، والمستوطنات، والاعتقالات؛ لتثبت وجودها وتصدق على حياتها ورفضها لكل صور الخنوع والذل
وعندما جاءت لحظة “طوفان الأقصى”، لم يكن الانفجار مجرّد حدث عسكري، بل كان إعلانًا عن أن المقاومة وصلت إلى طورها الجديد؛ طورٍ تتجاوز فيه الحسابات التكتيكية إلى إعادة تشكيل الخيال الفلسطيني نفسه. إذ لم يعد الفلسطيني ينظر إلى نفسه من موقع المتلقّي، بل من موقع الفاعل القادر على تحريك مسار التاريخ، ولو في لحظة واحدة مكثّفة . وهذا التحوّل هو ما يجعل المرحلة الحالية أكثر تعقيدًا وأعمق دلالة؛ لأن المقاومة لم تعد مجرّد مجموع ما يفعله المقاتلون، بل صارت مجموع ما يعتقده الشعب عن نفسه، وعن عدوه، وعن إمكانية تغيير المعادلات. ومن هنا تأتي الإشارات التي يلمّح إليها مشعل حين يتحدّث عن “مرحلة جديدة تتشكّل”، ليس لأنها خطوة تكتيكية، بل لأنها تعبير عن توازن جديد بين الشعب، والوعي، والسلاح.
وهكذا، فإن السؤال عمّا إذا كانت المقاومة ستتوقّف يتحوّل، في ضوء هذا كلّه، إلى سؤال عن إمكانية توقّف الرغبة في العدالة، أو توقّف الحق في الأرض، أو توقّف الحاجة إلى معنى يصون الهوية. وهي أمور لا تتوقّف بالإكراه، ولا تتجمّد بالتهديد، ولا تُطفأ بالقصف؛ لأن المقاومة ليست مشروعًا فوقيًّا تُديره حركة، بل حالة تاريخية يُنتجها مجتمع حين تُسدّ في وجهه أبواب الحياة . فكما لا يتوقّف النهر عن الجريان لأنه يصطدم بصخرة، لا تتوقّف المقاومة لأنها تواجه قوّة عظمى. إن المقاومة ليست سلاحًا يُختزن أو يُسحب، بل إصرار إنساني على البقاء في عالم لا يمنح الضحية إلا خيار الرفض.
ولهذا، فإن مسيرة حماس من العمل السرّي إلى هندسة الردع ليست قصة صعود حركة، بل قصة تشكّل وعي جمعيّ يرى أن الضعف ليس قدرًا، وأن القوّة ليست حكرًا، وأن التاريخ لا يُكتب فقط بالمدافع، بل بالإرادة. وهذا الوعي هو الذي جعل المقاومة تنجو من كل ما مرّ بها: الاغتيالات، والحروب، والحصار، والانقسام السياسي، والضغوط الإعلامية والدبلوماسية. وليس لأن الحركة عبقرية في التنظيم فقط، بل لأن المقاومة، ببساطة، صارت مرآة يرى فيها الفلسطيني صورته الأكثر صدقًا.
بهذا المعنى، تصبح المقاومة ليس الحلقة الأكثر صخبًا في الصراع، بل الحلقة الأكثر تجذّرًا؛ لأنها خرجت من عمق حاجة لم يُشبعها شيء، ومن جرح لم يندمل، ومن علاقة مع الأرض لا يترجمها إلا الفعل. وما دام الاحتلال قائمًا، وما دامت معادلات القوّة غير متوازنة، فإن المقاومة، مهما تغيّرت أشكالها، ستبقى اللغة الأخيرة التي لا تحتاج إلى مترجم.
ما دام الاحتلال قائمًا، وما دامت معادلات القوّة غير متوازنة، فإن المقاومة، مهما تغيّرت أشكالها، ستبقى اللغة الأخيرة التي لا تحتاج إلى مترجم
ختامًا..
حين يُساق الكلام في النهاية إلى السؤال الذي يُطرح دائمًا: هل يمكن للمقاومة أن تتوقّف؟ يأتي الجواب من طبيعة الواقع لا من شعاراته.
فالمقاومة لا تُعلَّق بقرار، ولا تُطوى بإرادة طرف واحد؛ لأنها ليست مشروعًا مؤقّتًا وُلد في هوامش السياسة، بل هي ردّ الإنسان الفلسطيني على معنى الاحتلال ذاته . وما دام الاحتلال يعربد في الأرض، ويغرس مستوطناته، ويهدم البيوت، ويقتحم المدن والمخيّمات، ويعامل الفلسطيني كطارئ على جغرافيته، فإن المقاومة لن تتوقّف؛ لأنها في العمق استمرار للحياة في وجه الفناء، واستمرار للمعنى في وجه العبث، واستمرار للهوية في وجه المحو.إن توقّف المقاومة يعني توقّف الزمن الفلسطيني نفسه، وهذا ما لم يحدث يومًا، ولن يحدث ما دام الظلم قائمًا. فالمقاومة ليست وعدًا بالتحرير فقط، بل رفضٌ دائمٌ للتطبيع مع القهر؛ وحركة وُلدت في قلب المواجهة لن تموت ما دام الاحتلال حاضرًا، لأن وجودها مرتبط بمعنى لا يزول إلا بزوال سبب وجوده: الاحتلال ذاته.
