في اليوم العالمي للغة العربية لا يصحّ أن نقف عند حدود الاحتفاء الرمزي أو التغنّي العاطفي بلغةٍ عظيمة، ثم نعود في بقية العام إلى ممارسات تُفرغ هذا الاحتفاء من معناه. فالعربية اليوم لا تواجه تحدّي الاستخدام، بل تواجه تحدّي المكانة: هل تبقى لغة مركزية تُنتج الوعي، أم تُدفع تدريجيًا إلى الهامش لتتحول إلى أثر ثقافي جميل بلا وظيفة حقيقية؟
ما يجري حول الفصحى والنحو ليس نقاشًا لغويًا بريئًا، ولا اختلافًا تربويًا عابرًا، بل هو جزء من حربٍ ناعمة على هوية الأمة. فالأمم لا تُهزم دائمًا بالسلاح، بل تُهزم حين تُفصل عن لغتها، لأن اللغة ليست مجرد أداة نطق، بل الوعاء الذي تتشكل فيه القيم، وتُبنى به الرؤية للعالم، ويُصاغ من خلاله المنطق الداخلي للتفكير. ولهذا حين تُفرَّغ اللغة من قواعدها، يُفرَّغ العقل من أدوات الضبط ويتأثر بفقدها بلا شك.
الفصحى ليست مستوى لغويًا متعاليًا على الناس، ولا نسخة رسمية مصطنعة من العامية، بل هي اللغة المعيارية التي مكّنت العرب عبر قرون من أن يكونوا أمة واحدة رغم اختلاف البيئات واللهجات. كما أنّ وجود لهجات محلية أمر طبيعي في كل اللغات الحيّة، لكن الخطير هو محاولة إحلال اللهجات محل اللغة الجامعة، وكأن الأمة يمكن أن تحافظ على وحدتها المعرفية والثقافية بلا لسانٍ مشترك .
الأمم لا تُهزم دائمًا بالسلاح، بل تُهزم حين تُفصل عن لغتها، لأن اللغة ليست مجرد أداة نطق، بل الوعاء الذي تتشكل فيه القيم
أما النحو، الذي صار عند كثيرين مرادفًا للتعقيد والتكلّف، فهو في حقيقته قانون المعنى. لم ينشأ النحو ليعذّب المتعلّمين؛ بل نشأ لحماية الدلالة من الانفلات. العربية لغة تعتمد في إنتاج المعنى على العلاقات بين الكلمات لا على ترتيبها وحده. ولهذا تستطيع الجملة العربية أن تتقدّم وتتأخّر، وتُحذف وتُذكر، دون أن يضيع المعنى؛ لأن النحو هو الذي يضبط هذه الحركة. ولهذا هذه القدرة ليست عبئًا، بل ثروة لغوية هائلة.
يكفي أن نتأمل كيف تغيّر حركة واحدة المعنى تغيّرًا جذريًا، فننتقل من فاعل إلى مفعول، ومن خبر إلى دعاء، ومن تقرير إلى إنكار. اللغة التي لا تملك هذا الضبط والاتساع لا تستطيع أن تحمل تشريعًا، ولا أن تؤسس علمًا، ولا أن تنتج فلسفة دقيقة . ولذلك فإن الهجوم على النحو هو في العمق هجوم على فكرة أن للمعنى بنية، وأن الكلام مسؤولية.
الدعوات التي تُرفع باسم "التيسير" كثيرًا ما تخفي وراءها تبسيطًا مخلًّا. التيسير الحقيقي لا يكون بإسقاط القواعد، بل بإعادة وصلها بوظيفتها الطبيعية. واللغة لا تُيسَّر بإفراغها من نظامها، بل بتعليم هذا النظام بطريقة حيّة مرتبطة بالمعنى والنص والحياة. فالفرق كبير بين لغة سهلة لأنها فقيرة، ولغة دقيقة لأنها غنيّة، والفرق أكبر بين لغة خالية من النظام ولغة قوية مرتبطة بالمعنى ومجريات الحياة.
نعم، العربية أصعب من كثير من اللغات الأجنبية، وهذه حقيقة لا ينبغي إنكارها ولا الاعتذار عنها. لكنها أصعب لأنها أقوى. هي لغة قادرة على حمل تنوّع دلالي واسع في تركيب واحد، وتستوعب الزمن والاحتمال والتوكيد والنفي والشرط والتخصيص بدرجات دقيقة. هذا التعقيد يشبه تمامًا الفارق بين الأجهزة البدائية القديمة والهواتف الذكية الحديثة، فالأخيرة أعقد في الاستخدام، لكنها تفعل أشياء أكثر، وتمنح مستخدميها قدرات أوسع. ولهذا لا أحد يطالب اليوم بالعودة إلى الهاتف القديم بحجة أنه أبسط.
الفارق بين اللغة العربية وغيرها كالفارق بين الأجهزة البدائية القديمة والهواتف الذكية الحديثة، فالأخيرة أعقد في الاستخدام، لكنها تفعل أشياء أكثر، وتمنح مستخدميها قدرات أوسع. ولهذا لا أحد يطالب اليوم بالعودة إلى الهاتف القديم بحجة أنه أبسط
المفارقة أن العالم يحتفي بالتعقيد حين يكون تقنيًا أو رقميًا، لكنه يطالب العربية وحدها بأن تكون "خفيفة" و "مبسّطة" حتى لو فقدت جوهرها . و هذه ليست دعوة تطوير، بل دعوة تفريغ وانسلاخ عن الهوية دون أية مواربة.
غير أن النقد الصادق يقتضي الاعتراف بأن الخطر لا يأتي من الخارج وحده. نحن في بيوتنا ومدارسنا نُسهم أحيانًا كثيرة في إضعاف العربية من حيث لا نشعر. حين نخاطب أبناءنا بلغة أجنبية، ونربط الذكاء والنجاح والتقدّم بلغة غير لغتهم، فإننا نزرع في وعيهم رسالة خطيرة: لغتك لا تكفي وليست على ذاك القدر من الأهمية. وحين يكبر الطفل وهو يشعر أن العربية لغة الصف والامتحان فقط، لا لغة التفكير والحياة، فإنه يتعامل معها بوصفها عبئًا مؤقتًا لا أصلًا دائمًا.
نحن في بيوتنا ومدارسنا نُسهم أحيانًا كثيرة في إضعاف العربية من حيث لا نشعر. حين نخاطب أبناءنا بلغة أجنبية، ونربط الذكاء والنجاح والتقدّم بلغة غير لغتهم، فإننا نزرع في وعيهم رسالة خطيرة: لغتك لا تكفي وليست على ذاك القدر من الأهمية
وتتضاعف المشكلة حين تتحول العربية في المدرسة إلى مادة معزولة عن الواقع، تُدرَّس كما تُدرَّس بعض فروع الفيزياء الجافة: قوانين للحفظ، وتمارين آلية، ونحو منفصل عن النصوص والمعنى. في هذه الحالة لا يرى الطالب اللغة بوصفها أداة للفهم، بل بوصفها مادة هامشية لا علاقة لها بحياته. هنا لا يفشل الطالب، بل تفشل المقاربة التعليمية وتكون المخرجات أدنى من التوقعات مما يعني ضعفاً واضحاً في اللغة.
فالنحو على سبيل المثال حين يُفصل عن النص يفقد روحه. وحين يُربط بالقرآن، والأدب، والخطاب اليومي، وتحليل المعنى، يتحول إلى أداة تفكير عميقة. و الطالب لا ينفر من النحو لأنه صعب، بل لأنه قُدِّم له بلا معنى. ولو قُدِّم بوصفه مفتاحًا لفهم الكلام، لا دفتر قواعد، لتغيّر الموقف جذريًا.
الدفاع عن العربية اليوم لا يعني معاداة اللغات الأجنبية، ولا إقصاء العاميات من فضائها الطبيعي، بل يعني إعادة الاعتبار للفصحى بوصفها الأصل ، وللنحو بوصفه الأداة المنظِّمة للغة. اللغة الأجنبية تُضاف، ولا تُستبدل. واللهجة تُستخدم، ولا تُؤسَّس عليها الهوية.لكن الحديث عن الأزمة دون الانتقال إلى أفق الحلول يظل ناقصًا. أول هذه الحلول يبدأ من إعادة تعريف وظيفة العربية في الوعي التربوي. فلا ينبغي أن تُقدَّم اللغة بوصفها مادة مستقلة عن الحياة، بل بوصفها أداة للفهم والتفكير والتعبير. ولذلك فإن تعليم النحو، على وجه الخصوص، يحتاج إلى انقلاب في المنهج: من تعليم القاعدة إلى تعليم المعنى، ومن حفظ المصطلح إلى تحليل النص. كما أن النصوص القرآنية والأدبية والفكرية يجب أن تكون المدخل الطبيعي للنحو، لا الأمثلة المصطنعة المعزولة. عندئذٍ تستعيد اللغة موقعها بوصفها ممارسة عقلية، لا مجرد مادة دراسية.
لا ينبغي أن تُقدَّم اللغة بوصفها مادة مستقلة عن الحياة، بل بوصفها أداة للفهم والتفكير والتعبير
أما الحل الثاني، فيتعلّق بالبيت والفضاء الاجتماعي والإعلامي. فاللغة لا تُصان في الصف وحده، بل تُصان حين تُستعاد إلى الحياة اليومية. مخاطبة الأبناء بالعربية الفصيحة الميسّرة، لا المتكلّفة ولا المهجورة، تزرع فيهم شعورًا طبيعيًا بأن لغتهم صالحة للتعبير عن المشاعر والأفكار، لا للامتحان فقط. والإعلام مطالب بأن يتوقف عن التعامل مع الفصحى بوصفها لغة المناسبات، وأن يعيد إليها حيويتها دون تسطيحها.
ويكتمل مسار الحل حين نكسر الحاجز النفسي الذي حُصرت خلفه الفصحى طويلًا، ونعيد إدخالها بثقة إلى المحاضرات والندوات والفضاءات العامة، لا بوصفها لغة رسمية متخشبة، بل لغة قادرة على النقاش الحيّ والتحليل العميق. والأهم من ذلك حضورها الواعي في وسائل التواصل الاجتماعي، في المقالات القصيرة، والتحليلات السريعة، وحتى المحتوى الترفيهي. لا تناقض بين الفصحى والمرح، ولا بين العمق والبساطة. حين تُقصى الفصحى عن الفضاء الرقمي، يترسخ أنها لغة زمن مضى، بينما الحقيقة أنها لم تُمنح بعد فرصة عادلة في هذا المجال .
إنّ اللغة العربية لا تحتاج إلى إنقاذ بقدر ما تحتاج إلى استعادة مكانها الطبيعي في التفكير والتعليم والخطاب العام
أما الخاتمة التي يفرضها هذا المسار كله، فهي أن معركة العربية ليست لغوية بحتة، بل معركة وعي واختيار حضاري. لا أحد يُجبر أمة على التخلي عن لغتها. فالأمم تفعل ذلك حين تتعامل مع لغتها بوصفها عبئًا لا رصيدًا، وماضيًا لا مستقبلًا.
إنّ اللغة العربية لا تحتاج إلى إنقاذ بقدر ما تحتاج إلى استعادة مكانها الطبيعي في التفكير والتعليم والخطاب العام.
وفي اليوم العالمي للغة العربية، يكون الوفاء الحقيقي لها ألا نكتفي بالاحتفاء بها، بل أن نعيدها إلى قلب الحياة اليومية، حيث تكون اللغة فكرًا حيًّا، وهويةً واعية، وأفقًا مفتوحًا للمستقبل، لا مجرد ذكرى جميلة في روزنامة المناسبات.

