في زمن الحروب المركّبة، لم تعد المواجهة محصورة في الميدان العسكري أو في غرف السياسة المغلقة، بل اتسعت لتشمل الوعي، والرمز، والثقة، والقيادة. وحين نتحدث عن حركة حماس اليوم، فإننا لا نتحدث عن تنظيمٍ يخوض معركة تقليدية، بل عن حركة تتعرض لحرب شاملة تستهدف وجودها، وسرديتها، وشرعيتها، وقبل ذلك رموزها وقياداتها التي حملت المشروع لعقود طويلة، ودفع كثيرٌ منها أثمانًا باهظة من أعمارها، وأسرها، وحريتها، وأرواح أبنائها.
إسقاط الثقة والتشكيك
إن الاحتلال يدرك جيدًا أن الحركات لا تُهزم فقط بإضعاف بنيتها العسكرية، بل بإسقاط الثقة بين القاعدة والقيادة، وبزرع الشك في رموزها، وتحويل التقدير التاريخي إلى ريبة، والتضحيات إلى موضع اتهام . ولهذا لم تكن الحرب على حماس حرب صواريخ فقط، بل حرب صورة، وحرب سردية، وحرب تشكيك، هدفها النهائي تفكيك الحركة من الداخل، وجعل أبناء الصف الواحد يتولون، بوعي أو بغير وعي، مهمة الهدم التي عجز العدو عن إنجازها بقوته، إما بالانشغال بالمناكفات، أو الاصطفافات واتباع الأشخاص بدل الأفكار إلى غير ذلك.وقد لا يفلح الاحتلال في إنهاء الحركة عسكريًا، وقد يفشل في عزلها سياسيًا، لكنه قد ينجح، إن غاب الوعي، في تزيين خطاب يبدو في ظاهره “نقدًا موضوعيًا” و”حرية رأي”، بينما هو في حقيقته اصطفاف غير مباشر مع كل الأبواق الناعقة التي تعمل ليل نهار على تشويه المقاومة وتجريدها من رصيدها الأخلاقي والوطني. فليس كل نقد بريئًا، وليس كل من رفع لافتة “الحرية” كان بالضرورة حارسًا للحقيقة، بل كثيرًا ما كانت هذه العناوين هي الغلاف الأنيق لأخطر عمليات الطعن .
وهنا لا بد من قولٍ واضح: نحن لا نتعامل مع أنبياء، ولا نزعم العصمة لأحد، ولا نؤمن بقيادة فوق النقد أو المراجعة. لكن في المقابل، من العيب، أخلاقيًا وعقليًا، أن ننسى أن بشريتنا نحن أيضًا قد توقعنا في كبائر عند النقد، قد تكون في آثارها ونتائجها أشد خطرًا من الخطأ الذي ننتقده. فالخطأ التقديري في معركة معقّدة قد يُغتفر، أما تفكيك الصف، وبث الشك، وكسر الهيبة المعنوية، فهي أخطاء قد لا تُجبر آثارها بسهولة.
نحن لا نتعامل مع أنبياء، ولا نزعم العصمة لأحد، ولا نؤمن بقيادة فوق النقد أو المراجعة. لكن في المقابل، من العيب، أخلاقيًا وعقليًا، أن ننسى أن بشريتنا نحن أيضًا قد توقعنا في كبائر عند النقد، قد تكون في آثارها ونتائجها أشد خطرًا من الخطأ الذي ننتقده
إن كثيرًا من المنتقدين يتعاملون مع القيادة بمنطق “اللقطة المعزولة” إن لم تكن افتراء من الأساس! فيجتزئون تصريحًا، أو موقفًا، أو تحالفًا، دون قراءة السياق العام، أو إدراك حجم الضغوط، أو تعقيد الموازنات، أو معرفة ما يُقال في الغرف المغلقة ولا يصل إلى العلن. والسياسة، شاء من شاء وأبى من أبى، ليست خطبة مسجد، ولا منشورًا عاطفيًا، ولا شعارًا نظيف الحواف، بل هي فن التعامل مع الممكن، وتقليل الخسائر، وتأجيل بعض المكاسب، حفاظًا على الهدف الأكبر.
المعارضة .. بين التنظيمات والدول
ويبرز هنا سؤال يتكرر كثيرًا: لماذا نطالب بالمعارضة في الدول، ونرفضها في حركات المقاومة؟ وهو سؤال في ظاهره وجيه، لكنه في عمقه يحتاج إلى تفكيك. فالدول كيان مستقر، يملك مؤسسات، وحدودًا آمنة نسبيًا، وفضاءً عامًا قابلًا للاختلاف المفتوح. أما حركات المقاومة، فهي كيانات تقاتل من تحت النار، وتعيش في حالة استهداف دائم، وأي تصدع داخلي فيها ليس ترفًا ديمقراطيًا، بل ثغرة أمنية وسياسية قد يدفع ثمنها الناس دمًا، وحصارًا، وتهجيرًا.
هذا لا يعني منع المعارضة داخل الحركات، ولا مصادرة الرأي، ولا تقديس القيادة، لكن يعني، ببساطة، الانتباه إلى كيف نعارض، وأين، وبأي خطاب، ولصالح من، ومن المستفيد النهائي من هذا الاعتراض. فالنقد الذي يتحول إلى مادة إعلامية يتغذى عليها العدو، ليس شجاعة، بل سذاجة على أقل تقدير، أو تواطؤًا على أسوأ الفروض.
النقد الذي يتحول إلى مادة إعلامية يتغذى عليها العدو، ليس شجاعة، بل سذاجة على أقل تقدير، أو تواطؤًا على أسوأ الفروض
ولا يمكن إنكار حقيقة مزعجة: أن بعض الأصوات التي تتصدر مشهد التشكيك ليست بريئة تمامًا. بعضهم تحركه نوايا مخبأة، وبعضهم يتساوق مع اتجاهات خارجية جهلًا أو عمدًا، وبعضهم أسير رغبة في الظهور، أو تسجيل موقف، أو تبرئة الذات من كلفة الانتماء في زمن الخذلان . وهؤلاء، بقصد أو بغير قصد، يتحولون إلى خراصي العصر، يقدّرون الأمور جزافًا، ويطلقون الأحكام بلا علم، ويشيعون الظنون في لحظة تحتاج إلى أعلى درجات الانضباط والوعي.
كيف يكون النقد الصحيح للقيادة؟
النقد الصحيح يبدأ أولًا بالنية: هل أبحث عن الإصلاح أم عن التفريغ؟ هل أريد تقويم المسار أم كسر الرمزية؟
ثم يأتي الفهم: قراءة السياق الكامل، ومعرفة الوقائع، وسماع الرواية من مصادرها، لا الاكتفاء بما يتداوله الإعلام المعادي أو منصات التواصل.
ثم تأتي القناة: الأصل في النقد أن يكون عبر القنوات الداخلية، أو بلغة مسؤولة لا تحرّض ولا تشهّر، ولا تُسقط الهيبة العامة.
وأخيرًا تأتي الأولويات: أن لا يتحول الخطأ، إن ثبت، إلى القضية المركزية التي تبتلع كل القضايا، وتُنسينا الاحتلال، والحصار، والدم، والأسرى، والمجازر.
إن أخطر ما يمكن أن تقع فيه الحركات المقاومة ليس الخطأ، بل فقدان الثقة المتبادلة بين قيادتها وجمهورها
إن أخطر ما يمكن أن تقع فيه الحركات المقاومة ليس الخطأ، بل فقدان الثقة المتبادلة بين قيادتها وجمهورها. فالثقة هي الوقود المعنوي الذي يُبقي المشروع حيًا، وهي التي تجعل الناس تتحمل، وتصبر، وتدافع، حتى في أشد اللحظات قسوة. وحين تنهار هذه الثقة، لا يحتاج العدو إلى كثير جهد؛ فالهدم يكون ذاتيًا.
إن المعركة مع الاحتلال ليست معركة بندقية فقط، بل معركة وعي، ومن يخسر وعيه، يخسر بوصلته، ولو امتلك ألف حجة. أسأل الله أن يحفظ بوصلة هذه الأمة، وأن لا يجعلنا، بغير قصد، أدوات في يد من يتربصون بها.
