ليست المأساة الكبرى في مجتمعاتنا أن يولد فيها القليل من العقول، بل أن يولد فيها الكثير، ثم يُترَك أغلبهم ليذبل بصمت. فالعقول المهدورة لا تحمل بالضرورة سمات الضعف أو القصور، بل كثيرًا ما تكون شديدة اللمعان، متقدة الفضول، واسعة الخيال، لكنها تعيش في بيئات لا ترى في الذكاء قيمة، ولا في الإبداع ضرورة، ولا في السؤال حقًّا.
هكذا يتحول العقل من طاقة كامنة تنتظر التفعيل إلى عبء نفسي ثقيل، ومن إمكانية للنمو والإنجاز إلى مصدر للقلق والتآكل الداخلي.
من منظور سيكولوجي، يمكن فهم العقول المهدورة بوصفها حالة من الإمكانات غير المستثمرة؛ حيث توجد القدرات، لكن لا توجد الشروط التي تسمح لها بالتحقق.
العقول المهدورة لا تحمل سمات الضعف، بل كثيرًا ما تكون شديدة اللمعان، لكنها تعيش في بيئات لا ترى في الذكاء قيمة
العقل هنا يشبه بذرة صالحة زُرعت في تربة قاحلة؛ المشكلة ليست في البذرة، بل في المناخ. ومع مرور الوقت، لا تموت البذرة فجأة، بل تدخل في طور من الخمود المؤلم، حيث تظل واعية بإمكانها، عاجزة عن تجسيده.
أحد أخطر العوامل التي تغذي هذه الظاهرة هو الإحباط المزمن. فحين يصطدم المتعلم أو المبدع بصخرة الرفض، أو الإقصاء، أو التهميش، يبدأ جهازه النفسي في إعادة ضبط توقعاته. في البداية يقاوم، ثم يحاول، ثم يُرهَق، إلى أن يتبنى – دون وعي – استراتيجيات انسحابية؛ يقل طموحه، يخف صوته، ويقنع نفسه بأن “النجاة” أولى من “تحقيق الذات”. وهنا لا ينكسر العقل دفعة واحدة، بل يتآكل ببطء.
ويزداد الأمر تعقيدًا في المجتمعات التي تعاني من انعدام الحافز الاجتماعي. فحين لا يُكافأ الإبداع، ولا يُحتفى بالتميّز، ولا يُنظر إلى العقل الحر إلا بوصفه مصدر إزعاج، يتعلم الفرد درسًا نفسيًا قاسيًا؛ التفوق مكلف، والاختلاف خطر. عندها، إما أن يختار العزلة، أو الهجرة، أو – وهو الأخطر – الانصهار الكامل في النمط السائد، حيث يدفن ذكاءه تحت طبقات من التكيف القسري.
وفي كثير من الأحيان، لا تُهدر العقول بسبب القمع المباشر فقط، بل بسبب تسليط طاقتها في اتجاهات عبثية. عقلٌ قادر على الابتكار يُستنزف في صراعات هامشية، أو روتين وظيفي عقيم، أو سباق يومي محموم لتأمين أساسيات العيش.
هنا يتحول الذكاء إلى أداة بقاء لا أداة معنى، ويصبح التفكير وسيلة لتجاوز اليوم، لا لتجاوز الواقع.
مع الزمن، قد يتقن العقل تبرير القيود، بل والدفاع عنها، فيتحول السجن إلى “منطقة أمان” مزيفة
أما القهر النفسي والمعرفي، فيمثل الوجه الأشد قسوة ضمن هذا الخطاب. حين تُقمع حرية التفكير، ويُشيطَن السؤال، وتُفرض أيديولوجيات مغلقة، يُجبر العقل – حتى وهو نابغ – على العمل داخل أقفاص حديدية ضيقة.
ومع الزمن، قد يتقن هذا العقل تبرير القيود، بل والدفاع عنها، في عملية نفسية تُعرف بالتكيف القهري، حيث يتحول السجن إلى “منطقة أمان” مزيفة.
وينشأ عن ذلك كله شكل عميق من الاغتراب الداخلي: أن يعيش الإنسان في بيئة لا تشبه قيمه ولا تطلعاته، فينقسم على ذاته؛ ذاتٌ ترى ما يمكن أن يكونه، وذاتٌ أخرى لا يُسمح لها إلا بما هو متاح. هذا الانقسام يولد توترًا نفسيًا دائمًا، وقلقًا وجوديًا، وشعورًا بفقدان المعنى. وكثيرًا ما تصل هذه العقول إلى حالة من الانطفاء الداخلي أو الاحتراق النفسي قبل أن تتاح لها فرصة الإشراق.
لكن المأساة، على قسوتها، ليست قدرًا محتومًا. فالمخرج – وإن كان صعبًا – ممكن على مستويين:
على المستوى الفردي:
يبدأ التغيير باستعادة القدرة على المبادرة الذاتية، من خلال تشكيل بيئة داخلية محفِّزة، والبحث عن مسارات بديلة للإبداع خارج القوالب السائدة. فالعقل الذي يُضيَّق عليه واقعيًا، يمكنه أن يفتح لنفسه حيزًا واعيًا، ولو ضيقًا، لكنه حقيقي.
أما على المستوى المجتمعي:
فالحل أعمق وأطول نَفَسًا؛ سياسات تعليمية وثقافية تعيد الاعتبار للعقل الحر، وتحتضن التجريب، وتحمي الاختلاف، وتفهم أن الاستثمار في الإنسان ليس ترفًا، بل شرط بقاء.
حين نُنقذ عقلًا من الهدر، لا نُنقذ شخصًا فقط، بل نستعيد مسارًا، ومستقبلًا حضاريًا كان مهددًا بالضياع
إن الحديث عن سيكولوجية العقول المهدورة ليس رثاءً للنخب، ولا ترفًا فكريًا، بل تشخيصٌ لخلل عميق في علاقتنا بالإنسان ذاته. فالعقل الذي لا يُمنح فرصة السؤال، ولا مساحة الخطأ، ولا أفق التجريب، لا يفشل، بل يُفشَل. ومع تراكم الإحباط، يتحول الذكاء من نعمة إلى عبء، ومن أداة تغيير إلى مصدر صراع داخلي، يستهلك صاحبه بدل أن يُنتج أثرًا في العالم.
وإذا كانت الأمم تُقاس بما تُحسن استثماره من طاقات، فإن إهدار العقول هو أخطر أشكال الفقد؛ لأنه فقدٌ غير مرئي، لا يُقاس بالأرقام، لكنه يظهر في غياب المشاريع الكبرى، وفي تكرار الأخطاء، وفي الشعور الجمعي بالتيه.
إن إنقاذ العقول المهدورة لا يتحقق عبر إصلاح الأفراد وحدهم، بل عبر تفكيك البيئات التي تستنزفهم، واستعادة الحرية المعرفية، وردّ الاعتبار للمعنى باعتباره ضرورة نفسية موازية للحاجات المعيشية.
فحين نُنقذ عقلًا من الهدر، لا نُنقذ شخصًا فقط، بل نستعيد مسارًا، ومستقبلًا حضاريًا كان مهددًا بالضياع.
