في كتاب الله العزيز؛ يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سُورة "الأنبياء" – الآية 105]، ولعل هذه الآية فيها ما فيها من الدروس والعِبَر المستفادة، ما يمكن أن يملاً مجلدات عديدة.
وفي هذا الحيِّز؛ فإننا سوف نحاول الإلمام بأكبر قدر ممكن من العناوين المرتبطة بالمعاني العظيمة ومعالي الأمور التي تملأ هذه الآية، وأهم ما سوف نركز عليه، هو بعض الدروس المستفادة منها في مجال سُنن النصر والتمكين التي جاءت في القرآن الكريم، وفي الوقت ذاته، هي غائبة عن البعض في الحركة الإسلامية، ولاسيما في الأجيال الجديدة من أبناء الحركة، ورتَّب عدم فهمها، مشكلات عدة في الاستجابة لتطورات المرحلة، وكيفية التعامل مع الأزمات المستجدة.
أول دلالة في الآية الكريمة في هذا الصدد، هو أن الآية تحمل وعدًا أكيدًا بالتمكين، ولو بعد حين، فالوعد الإلهي ورد في "الذِّكْرِ"، كمال تقول الآية الكريمة، وهذه الكلمة وفق المفسِّرين، تعود على أُمِّ الكتاب عند الله تعالى، الذي كتب فيه رب العزة سبحانه، كل ما هو كائن، من قبل خلق السماوات والأرض.
إثبات الله تعالى وعده بالتمكين في أم الكتاب؛ يعني أنه قدرٌ إلهيٌّ نافذٌ لا محالة، وفي ذلك ما يطمئِن القلوب، ويهدئ الخواطر
وإثبات الله تعالى لذلك الوعد في أم الكتاب؛ يعني أنه قدرٌ إلهيٌّ نافذٌ لا محالة، وفي ذلك ما يطمئِن القلوب، ويهدئ الخواطر.
في هذه الأيام؛ ترك الكثير من الشباب، ثغورًا عديدة من المفترض أن يقفوا عليها ، بعد الأزمات الأخيرة التي ضربت بأطنابها داخل وفيما حول الحركة الإسلامية الصحوية، ودبَّ فيهم اليأس بعد معالم الهزيمة المرحلية التي مُنِيت بها بعض الحركات والجماعات الإسلامية التي طرحت مشروع الإصلاح السياسي والاجتماعي الشامل، في مجتمعاتها بعد ثورات الربيع العربي.وأهم باعث لهذه الحالة، هو اليأس، وعدم التحلي بأهم فضيلة في معركة الصراع بين الحق والباطل، وهي فضيلة الصبر.
واليأس ليس من شِيَم المسلم، لأن فيه من عدم الثقة بالله تعالى – والعياذ بالله – ما لا يتناسب مع عقيدة المسلم ، والتي من صميمها، الثقة في الله تعالى ووعده.
الله تعالى، أكد على فضيلة الصبر في القرآن الكريم؛ فهو أمرنا به، وفرضه علينا، ولم يخفِ إطلاقًا أن المعركة صعبة وطويلة
والله تعالى، أكد على فضيلة الصبر في القرآن الكريم؛ فهو أمرنا به، وفرضه علينا، ولم يخفِ إطلاقًا أن المعركة صعبة وطويلة. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران – الآية 200].
والتعبير القرآني المستخدَم في هذه الآية، يفيد بذلك.. "وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ"، فهي صيغة مبالغة، وتفيد بطول أمد الطريق الذي سوف يقطعه المؤمن في سبيل تنفيذ ما أمره الله تعالى به.
ويقول الإمام الشهيد سيد قطب في الظلال عن الصبر: "يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرًا؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يَقِظَة للمداخل والمخارج".
ويضيف أنه "لابدَّ من الصبر في هذا كله، لابدَّ من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشتاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض".
وهنا نجد أنه أشار صراحةً إلى بطئ النصر، وهي النقطة المهمة التي نشير إليها في هذا الموضع.
الملاحظة الأخرى المهمة في الآية الكريمة التي افتتحنا بها الحديث في هذا الموضع؛ تتعلق بالصلاح؛ حيث إن وعد الله تعالى بالتمكين في الأرض، هي لعباد الله الصالحين.
والصالح هو مَن صار حسنًا وزال عنه الفساد، وكذلك الصالح هو مَن عَفَّ، وفَضُلَ، والصلاح في اللغة كذلك، هو الاستقامة والسلامة من العيب، كما في معجم المعاني الجامع.
وكلها أمورٌ من الصعب تحقيقها من دون اشتراطات، على رأسها تحسين روابط العلاقة مع اللهِ تعالى، ولعل أهم أداة لذلك، هي الصلاة.
ففي الصلاة، يكون الإنسان أقرب ما يكون إلى ربه سبحانه وتعالى، ويصل – متى أداها في إيمان وإخلاص - إلى أعلى درجات النفس المطمئنة.
يأتي ذلك مع التربية الإيمانية، التي يُعتبر الصوم من بين أهم أركانها العملية، بالإضافة إلى ضرورة أن تتضمن ذِكرًا لتجارب الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ، وما تتضمنه من دروس وعِبَر حول ما واجهوه من مشاق، والنهاية التي وصلوا إليها، من نصر وتمكين، في مقابل هزيمة وخزي لأعداء الله، الكافرين الذين كذَّبوا الأنبياء والرُّسل، وطغوا في الأرض.
ويقول صاحب الظلال في ذلك إن "الصبر الجميل هو الصبر المطمئِن، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد ، صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به".
وفي هذا الصدد، يقول الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي في مقال له عن سنن الاستخلاف والتمكين: "إن استعجال بوارق النصر بطريق متلوِّن مع كل موقف، أو بخفض الجناح للمنافقين وأذنابهم للوصول للمَرام - لأمرٌ فيه مُجازفة ولا ريب، قد لا توصِل لسبيل الكمال، ونشوة الانتصار على حقيقته".
ولا يوجد في الختام أفضل من حديث الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، الذي رواه الخباب بن الأَرَت عندما لقي المسلمون ما لاقوه من عنتِ من المشركين، وقال له الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: "ألا تدعو الله"، فقعد وهو محمرٌّ وجهه، وقال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بمنشار فيوضَع فوق رأسه فيُشق باثنين فما يصُده ذلك عن دينه، وليُتمَّنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجِلون" [أخرجه البخاري].
