أبطال في عالم الوهم

الرئيسية » بصائر الفكر » أبطال في عالم الوهم

من أعجب الأمور في وقتنا الحاضر أنك حين تطلق عينيك في الفضاء حولك تجده محدوداً بأرض تعودت عليها، وسماء تعرف لونها وما فيها وتضاريس خاصة بالمكان الذي أنت فيه ألفتها وألفتك حتى الملل، بينما تنظر في جهاز صغير يراوح الكف في الحجم فيفتح لك كل يوم آفاق لم تكن تتخيل وجودها ويطلعك على أماكن قل من وصلها وجديد يستحيل معه الملل.

وهذه الإمكانات العجيبة للأجهزة الذكية غيرت الكثير من القيم والمبادئ ولعل من أهم هذه القيم قيمة البطولة.

في صغرنا كان البطل هو الذي يضحي بنفسه من أجل دين أو مبدأ أو وطن، واستمر ذلك حتى في الأفلام الأجنبية وأفلام الكرتون التي صاحبت طفولتنا. أما بعد انتشار الجوالات وبعدها مواقع التواصل الاجتماعي فقد تغيرت قيمة البطولة، وتحولت إلى قيمة أقرب إلى النجومية ، فالبطل في عصر التواصل الاجتماعي ليس لديه سلاح ولا معه عتاد وإن كنا نستطيع اعتبار الكاميرا عدة و لوحة المفاتيح عتاد!

وللأسف أصبح من السهل على أي كان أن يكون بطلا في هذا العالم الشاسع السهل التتبع والوصول، وأصبح لصاحب الغث والسمين أن يدلي بصوته وأن يكون له صفحة وكلمة وكل ما يحتاج إليه قليل من الحظ، وشيء من الجلد، وتنطلق بعدها شهرته ونجوميته لتطبق الآفاق ويصبح من أصحاب الأتباع والمريدين بغض النظر عن تفاهة ما يُطرح، وبالتالي يطرح صاحب الشهرة الواسعة أفكاره لمجتمعات التواصل الاجتماعي التي يتكون معظمها من مراهقين غير ناضجين فيتقبلها النشء مهما كانت وتشكل لديهم في فكرهم الواعي أو اللاواعي مرتكزات فكرية تلوث العقيدة والعرف إذا كانت منحرفة!

أصبح من السهل على أي كان أن يكون بطلا في هذا العالم الشاسع السهل التتبع والوصول، وأصبح لصاحب الغث والسمين أن يدلي بصوته وأن يكون له صفحة وكلمة وتنطلق بعدها شهرته ونجوميته لتطبق الآفاق ويصبح من أصحاب الأتباع والمريدين

أما تضييع الوقت والجهد فحدث ولا حرج فمن منا لم تمر عليه دعايات لألعاب مجانية تافهة لا دور لها إلا قتل الوقت وإحراز نقاط وهمية للوصول إلى بطولة لا يعلم بها أحد تقتل في نفس صاحبها الهمة للبحث عن بطولة حقيقية على أرض الواقع وتخلصه من مكبوتاته وألمه بطريقة التنفيس الذي لا طائل منه إلا التفريغ الآني الذي يضيع القيمة المرجوة للتعبئة المعنوية ويهدرها في بطولة وهمية على جهاز يتلاعب بصاحبه ويخدعه!

ويبرز لك من بين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي من يصلح فيهم قول زوجة لزوجها المقصر كم كنت سأحبك لو كنت زوجي على الفيس بوك فقط ! فالمثاليات التي يتغنون بها على تلك المواقع والكلمات التي يكتبونها تجعلك تشعر أن ملاكاً خلف هذه المنشورات يتحدث، وحين تركز في الاسم الذي تعرف صاحبه جيدا ترى البون الشاسع بين الكلمات التي تمشي على مواقع التواصل وبين صاحبها الذي يمشي على الأرض! وكم جر هذا من مشاكل في إيقاع الناس في حبال المخادعين ذوي الألسنة الحداد الحلوة وأصحاب الأجندات الشخصية الملوثة بل والعملاء أحياناً.

إن أي حرب قادمة سيكون لمواقع التواصل الاجتماعي نصيب الأسد فيها وستحدد المنتصر من المهزوم من خلال من يملك المعلومات عبر هذه الشبكات ويستطيع توظيفها بطريقة صحيحة تخدم هدفه

إن هذا الفضاء الافتراضي الواسع صار واقعاً يعبث بمصائر الأمم وليس الأفراد فقط، ولا نبالغ إذ نقول إن أي حرب قادمة سيكون لمواقع التواصل الاجتماعي نصيب الأسد فيها وا ستحدد المنتصر من المهزوم من خلال من يملك المعلومات عبر هذه الشبكات ويستطيع توظيفها بطريقة صحيحة تخدم هدفه.

وعلى الرغم من براعة الشعوب العربية في استخدام هذه المواقع إلا أن تأثيرهم العالمي ضعيف محدود ، فكم من فيلم صور من خلال هواة لحدث منزلي لا يعدو ضحكة طفل انتشرت في أقطار الأرض، بينما يندر أن نجد مثل هذه الأفلام من مصدر عربي وما رشح منها يكون صادماً لا يمثل المجتمع العربي الحق وقصة المراهق السعودي أبو سن وما حدث له من أكبر الأمثلة على ذلك!

لكن العرب استطاعوا أن يتصدروا العالم بأكثر من هشتاق وصل في الترندات العالمية إلى المصاف الأولى، وهذا يعني أننا ما زلنا نبرع في الحكي أكثر من أي شيء آخر.

كما استطاع الهاكرز العرب في أكثر من حالة خدمة قضاياهم من خلال الدخول إلى المواقع المستهدفة والعبث بها وبعيداً عن التبعات القانونية للقرصنة الإلكترونية إلا أن هذه القرصنة أسمعت صوتهم لمن لا يريد أن يستمع بالطريقة العادية.

ومع هذه الأعداد الهائلة التي تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي حيث وصل العدد إلى 63 مليون مستخدم بنسبة تتجاوز ربع سكان المنطقة، إلا أن العالم العربي يأتي متأخرا في ابتكار وتطوير هذه التقنية ويبقى في مصاف المستهلكين لها، ولنا أن نتخيل أن تحجب هذه الخدمات من مصدريها لأي سبب من الأسباب ماذا يمكن أن يحدث في العالم العربي؟ وهذا يدعونا للتأمل وإلى حملة سريعة لتمكين مهندسي الاتصالات الذين لا تنقصهم الأهلية وتوفير الإمكانات المادية التي ليس من الصعب توفيرها إذا توفرت إرادة من الحكومات العربية لرعاية مثل هذا الأمر الحساس.

لابد من وجود دراسة سيكولوجية للجماهير على وسائل التواصل والبحث في المتشابه والمختلف فيما بينها، لتبنى عليها سياسات جديدة تجعل مستخدمي هذه المواقع جدار صد عن الأمة لا طابوراً خامساً يعيش بين ظهرانيها

أما الجانب الأخير الملح والبالغ الأهمية والذي يجب أن ننظر إليه كمسلمين فهو دراسة سيكولوجية عميقة واسعة النطاق تغطي مساحة واسعة من المستخدمين لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي على نمط دراسة سيكولوجية الجماهير والبحث في المتشابه والمختلف فيما بينها، لتبنى عليها سياسات جديدة تجعل مستخدمي هذه المواقع جدار صد عن الأمة لا طابورا خامساً يعيش بين ظهرانيها.

وختاماً فإن هناك أبطالا حقيقيين في مواقع التواصل الاجتماعي استطاعوا أن يكونوا نعم السفراء لقضاياهم وبلادهم  ولعل أصغرهم بانا العابد تلك الطفلة الحلبية ذات التسعة أعوام والتي وثقت حصار حلب على مدى أشهر وخروجها منها سالمة إلى أراضي اللجوء ونقلت معاناتها الشخصية والتي تمثل نموذجا لمعاناة أهل حلب، حتى تبنتها كبريات وكالات الأنباء واستقبلها الرئيس التركي مرحباً ومسانداً.

إن المسؤولية التي وضعها الله على عاتق البشرية في حمل الأمانة التي أبت السماء والأرض أن يحملنها وظلم الإنسان نفسه فقبلها لجهله بعظمتها، تضعه كل يوم أمام تحد جديد واختبار للتحمل تأتي هذه المرة في صورة مسؤوليته أمام الله ثم أمام نفسه على تعامله مع مواقع التواصل الاجتماعي تعاملاً رشيداً حكيماً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية

شاهد أيضاً

هل انتهت المقاومة فعلاً… أم انتهى الوهم بإمكانية إنهائها؟

مع حلول ذكرى انطلاقة حركة حماس الثامنة والثلاثين، يعود سؤال البدايات ليضيء مشهد الحاضر: كيف …